"الأمة الفرنسية لا تجسّد شعبا واحدا ولكن مئة شعب، قررت أن تقبل بالعيش المشترك". هذا ما يشرحه المؤرخان والمتخصصان بعلوم السكان، في كتابهما المشترك، الصادر قبل أسابيع قليلة، تحت عنوان "اختراع فرنسا"، والذي يعتبرانه بمثابة أطلس سياسي، وبحث في مسار تطوّر المجتمع الفرنسي.

ويؤكّد المؤلفان على مدى صفحات كتابهما، أن السمة الأساسية للأمة الفرنسية هي التعددية. وأن قبول التعددية يعني بالوقت نفسه، قبول الاختلاف. وهذا ما تتم ترجمته في الواقع العملي، بوجود تعايش ناجح، بين مختلف مكونات المجتمع الفرنسي.

ثم إن ميثاق حقوق الإنسان هو نتاج فرنسي يؤكد على قبول التنوع والتعدد. وعلى المستوى الثقافي، يتم التأكيد على أن هناك سعيا دائما لتحقيق درجة عالية من الانسجام. ولكن هذا لا يلغي كون الثقافة حركة وتقدما، مع ظهور مستمر لأشكال جديدة من الاختلاف، تبرز اليوم من خلال المكونات المغربية والإفريقية والآسيوية في المجتمع الفرنسي.

وعلى المقولات التي تتردد اليوم، تحت عنوان "الهوية الوطنية"، بأن هناك محاولة لإعادة الانسجام المفقود، يردّ المؤلفان بالقول ان مثل هذا الانسجام، بالمعنى المطروح على أسس عرقية أو اثنية، لم يكن موجودا في أي يوم من الأيام.

بل يذهبان إلى حد القول ان أولئك الذين يقدمون أنفسهم كمدافعين عن الهوية الوطنية الصافية، لا يعرفون في واقع الأمر، تاريخ بلادهم، ولا يفقهون سر وحقيقة العبقرية الوطنية الفرنسية.

إن المؤلفين يرسمان في تحليلهما للهوية الفرنسية، مسارا تاريخيا، قام أساسا على فكرة التنوع، ولكن خلف واجهة توحيدية لمفهوم الدولة- الأمة. ويحتوي الكتاب على 132 خارطة جغرافية، تنمّ عن واقع التنوع في فرنسا، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

وإلى جانب اللجوء إلى الخرائط الجغرافية، يعتمد المؤلفان في تثبيت سمة التنوع المجتمعي على دراسة معطيات، متنوعة هي الأخرى، تتعلق بمعدل الولادات في الأسرة والعادات في مختلف المناطق وظاهرة الهجرة والمشاكل التي تطرحها. ومن خلال هذا كله، تبدو فرنسا في غاية التنوع، بل تبدو أحيانا "متنافرة بشكل عميق.

ولكن مثل هذا الواقع، لا ينفي وجود ميل قوي لدى العديد من الباحثين، للتأكيد على نقاط التشابه، واستبعاد نقاط الاختلاف. وهذا ما يردّ عليه المؤلفان بالقول: "إن أي خلاف تتم ملاحظته بين منطقتين أو بلدين في لحظة واحدة، يتم تعليله بمستويات التطور الثقافي أو الذهني أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو العقائدي أو السياسي. ولن يتم أبدا، قبول وجود متزامن لنمطين متمايزين ومستقلّين للعيش". وبهذا المعنى تغدو الوقائع الاجتماعية موجودة في الزمان، وليس في المكان.

ويجيب المؤلفان عن سؤال: "هل تشكل فرنسا اثنية واحدة"؟ بالنفي الجازم والحاسم، ذلك أن فرنسا كانت باستمرار : بلد استقبال للآخرين.

ونقرأ في الكتاب: " قسمت الثورة الفرنسية البلاد إلى قسمين، من خلال ثنائية العلاقة بين الأهل والأطفال وبين الرجال والنساء (...). ولكن فرنسا لا تحتوي على شعب واحد، بل مائة. وهذه الشعوب، تختلف من حيث مفاهيم الحياة والموت ومنظومات القرابة والمواقف، حيال العمل أو العنف. ومن وجهة النظر القائمة على أساس وجود شعب محدد، له خصائصه المميزة أي ما يمكن اعتباره من وجهة نظر انتروبولوجية- ربما ما كان لفرنسا أن توجد أصلا.ويرى المؤلفان أنه ليس هناك بلدان كثيرة في العالم، تشابه فرنسا، وحيث ان الولايات المتحدة لها أوجه شبه كثيرة فيها. وهذا ما يتم التعبير عنه بالقول: "الولايات المتحدة الأميركية وحدها يمكن اعتبارها قريبة ابنة عم- فرنسا من حيث سمة التنوع (...). وهذا مع ميزة كبيرة لأميركا، تتمثل في وجود نواة أنكلوسكسونية صلبة ومنسجمة.

وأما فرنسا، فإنها لم تتأسس من قبل أي شعب معيّن. إنها تحمل اسم مجموعة جرمانية الفرنجة، وتتحدث لغة منحدرة من اللاتينية (...). وجرى اختراعها من قبل مجموعة من الشعوب، وهي تمثل، أكثر من أية أمة أخرى في العالم، تحديا حيا لجميع المقولات التي تؤكد على المحددات الاثنية والثقافية. ويضيف المؤلفان ان الفرنجة والغاليين- الرومان، هم أنفسهم ليسوا شعوبا ذات طابع اثني.

ويتردد في هذا السياق القول ان الفرنجة كانوا يشكّلون من عدة مجموعات صغيرة، وكانت هامشية. ولكن المؤرخين يتفقون على القول انهم كانوا يعيشون على ضفاف نهر الرين.

ونقرأ هنا: "إن التنافر الأولي قد يفسّر، إلى حد كبير، التسامح الأيديولوجي الذي تتسم فيه فرنسا، والذي شكل سر نجاحهم (...). وهذا التاريخ الذي لا يمتلك بداية مرئية أو يمكن تحديدها بدقة، ليس له أيضا نهاية. وتبقى فرنسا اليوم، مهما قيل، هي أرض استقبال الآخرين". وبالتالي: "تستطيع أن تدمج في نسيجها الاجتماعي، كائنا من يكون".

ومقابل واقع التنوع الذي تتميز فيه فرنسا، منذ تأسيسها، جرت محاولات تعويض ذلك من خلال إيجاد دولة مركزية قوية. وكذلك من خلال تطوير مشاعر الانتماء اللغوي وتعزيز موقع اللغة الفرنسية، على أساس أنها أداة توحيد الأمة ووسيلة التواصل الوطني. وبالاعتماد على هذا، استطاعت فرنسا أن تصمد في مواجهة جميع الغزوات الخارجية.

وسكن بلاد الغال- فرنسا حاليا( جزئيا)- منذ القديم: السلتيون. ومن ثم استوطنها الرومان حيث قامت ثقافة غالية رومانية. ووصل بعدهم الجرمان- الألمان حاليا- ليحل بعد ذلك دائما، الفرنجة الذي أعطوا تسمية فرنسا، ولكن حيث لا توجد ثقافة ولا لغة فرنجية. وهؤلاء جميعهم اخترعوا فرنسا.

 

 

 

 

 

الكتاب: اختراع فرنسا

تأليف: ايمانويل تود، هيرفي لوبرا

الناشر: غاليمار باريس 2012

الصفحات: 517 صفحة

القطع: المتوسط

 

 

Linvention de la France

Emmanuel Todd, Hervé Le Bras

Gallimard - Paris- 2012

517 .p