يعيش العالم اليوم عصر الإعلام "بامتياز". وعندما تكون الشهرة هي التي تصنع القانون، فإن الموهبة تغدو إحدى السمات أو الخيارات من أجل الوصول إلى الشهرة. وقد اختارت الباحثة الاجتماعية الفرنسية ناتالي هاينش، المتخصصة في مجال الفن وصاحبة العديد من الكتب، أن تكرس عملها الأخير للبحث في "المكانة المرموقة" التي يحتلّها أولئك الذين يظهرون باستمرار على شاشات التلفزيون، وفي مختلف وسائل الإعلام، المرئية والمكتوبة والمسموعة.
هذه المكانة تمثل إحدى الحقائق البارزة في المنظومة الإعلامية. ذلك على أساس أن الحضور الإعلامي المتكرر، يقوم بصناعة قيمة جديدة. يبدو أنها بصدد أن تحل محل جميع القيم الأخرى.
والقيم الأخرى المقصودة هي التي كانت تعطي أي إنسان، امرأة أو رجلاً، قيمة لدى الآخرين، بناء على صفاته ومؤهلاته الشخصية الإنسانية أو الفكرية أو الأخلاقية، من خلال سلسلة من التوصيفات التي من أبرزها الذكاء والقدرة الإبداعية والشجاعة والصدق والتفرّد. ذلك كله على أساس مقولة كان يرددها الجميع تقريبا، حتى فترة قريبة من الزمن، ومفادها أن قيمة أي إنسان، ترتبط بأمرين أساسيين، هما: كفاءاته ومواهبه.
لكن مثل هذه المعايير كلها، فقدت الكثير من فاعليتها. وهذا ما تقوله مؤلفة الكتاب، وتشرحه انطلاقا من انتشار الوسائل الحديثة للإعلام، منذ اختراع التصوير. وبدلا من القيم التقليدية المعروفة، أصبح الحضور الإعلامي، هو الشكل الجديد لبلوغ الشهرة، باعتباره رأس مال حقيقي، يتم تقديره بعدد الأفراد الذين يتعرّفون، على اسم ووجه الشخص المرموق.
وترى المؤلفة، أن أولئك الذين يملكون رأس مال من الشهرة الإعلامية، يشكّلون فئة اجتماعية جديدة، وتضم شريحة واسعة، تمتد من ذلك الذي يصبح موضوع حديث أهل القرية، وحتى النجم المعترف فيه عالمياً.
هؤلاء جميعهم يشكّلون فئة النخبة، وبهذا المعنى تغدو المكانة المرموقة التي يكتسبها شخص ما، بمثابة قيمة بذاتها، ورأس مال له مكاسبه. وهذا ما تتم البرهنة عليه من خلال تمتع شخص ما لا يملك أي صفة حقيقية بـ"ظهور إعلامي" حقيقي.
وتسوق المؤلفة عدداً من التصريحات التي نطق بها مشاهير في مختلف الميادين، ويعبّر عنها بامتياز ما قاله "الفنان" الشهير "اندي وارول" الذي غدا في عداد المشاهير والذي تتردد صورته في العديد من البرامج التلفزيونية، ومفاده: "أنا معروف خاصة بسبب ظهوري في وسائل الإعلام"، الأمر الذي يعني بوضوح، حسب المؤلفة، أنه يريد قول "وليس بسبب أعمالي". بهذا المعنى غدت "الشهرة" الإعلامية مرادفا للتمتع بكثير الامتيازات.
أن يكون المرء "منظورا" من قبل الآخرين وبالتالي هو موضع الاعتراف به من قبلهم. إنه "معروف" من قبلهم عبر "صورته" الإعلامية، لكنهم ليسوا "معروفين" من قبله. من هنا بالتحديد يتمتع بامتلاك "رأس مال غير مادي"، ذلك من خلال التباين بين عدد الناس الذين يعرفون من هو وعدد أولئك الذين يعرفونه شخصيا.
بل ويستطيع الشخص المعني "المشهور" توريث هذا "الرأسمال" إلى أبنائه الذين قد "يستثمرونه" لخدمة مصالحهم الشخصية عبر تأمين الحضور الإعلامي لـ "صورتهم واسمهم". هكذا يمكن لأبناء "ايف مونتان" مثلا أن يحظوا باهتمام إعلامي كبير وبالتالي بالشهرة.
و"أن يكون المرء معروفا" يعني أولا "الظهور المتكرر" لصورته. هذا مع وجود فارق كبير باستمرار بين "الأصل" و"الصورة". تشير المؤلفة أنه من النادر جدا أن يرى الناس "حقيقة" من يعرفونهم عبر ظهورهم الإعلامي مطابقة لواقع ما هم عليهم بالفعل "إن المسافة كبيرة بين الأصل والنسخ المأخوذة عنه"، كما نقرأ.
وبسبب عدم قدرة الإنسان "الشهير" على معرفة جميع الذين "يتعرّفون عليه" فإنه يغدو بمثابة "نموذج نادر"، إذ هناك و"الندرة" هي بالأصل "وفرة في الطلب" و"قلّة في العرض". الحاصل اليوم هو الندرة "الذهنية" يتم تحويلها إلى "امتيازات" واقعية.
والمعادلة، كما تقدمها المؤلفة، بسيطة وتكمن في كون اهتمام الآخرين بالمعنى، يتيح له أن يبيع بسهولة كل ما يفعله، بل كل حركة يقوم بها، وذلك من مساحيق التجميل، وحتى الأفكار والسياسات.
ثم إن عدسات التصوير، بكل أنواعها، هي التي أصبحت تساهم في ولادة المشاهير. وهكذا تكفي المشاركة في برنامج تلفزيوني مثل: محبوب أميركا- أميريكان آيدل- ليصبح المغمور اليوم، نجما في الغد. والآلية نفسها في صناعة الشخصيات، التي يلاحقها المعجبون، بينما أمكن لأصحابها، أن يكونوا في عداد جمهور هؤلاء المعجبين.
هذا كتاب عن الاستهلاك الكبير والجماعي للشهرة عن طريق الظهور الإعلامي، والتأكيد على أن الأمر يتعلق بظاهرة موجودة على مختلف الصعد، ولكنها تتسم أولا وأساسا، بتجاهل الفكر. وبالتأكيد هناك نجوم استحقوا شهرتهم بجدارة، ولكن هناك عدة مشاهير، وصلوا إلى مصاف النجوم، عبر فبركات عدسات التصوير.
الكتاب: حول المكانة المرموقة «إعلاميا»
تأليف: ناتالي هاينش
الناشر: غاليمار باريس 2012
الصفحات: 593 صفحة
القطع: المتوسط
De la visibilité
Nathalie Heinich
Gallimard - Paris- 2012
593 .p
