هناك فكرة شائعة في الولايات المتحدة، مفادها أن جورج ف. كينان، هو صائغ السياسة الأميركية للحرب الباردة. وأستاذ التاريخ في جامعة "يال" جون لويس غاديس، ويكرّس كتابه الأخير لسيرة حياته، على اعتبار أنها سيرة حياة أميركية بامتياز، كما يقول عنوان الكتاب.
ويؤكد المؤلف، منذ البداية، أن جورج ف. كينان، هو صاحب وثيقتين أساسيتين، عرفتهما سنوات الأربعينات من القرن الماضي، العشرين، وحدد فيهما استراتيجية الصد، التي شكّلت العمود الفقري للسياسة الأميركية حيال الاتحاد السوفييتي "السابق".
ذلك خلال العقود الأربعة التالية على نشرهما. وانطلاقا من تلك الفترة، نال كينان شهرة كبيرة، وصف معها ب، طبقا لتحديديات الكتاب بـ: "الدبلوماسي الأميركي الأكثر نفوذا خلال فترة الحرب الباردة".كان كينان قد خدم كدبلوماسي لفترة في موسكو خلال سنوات الثلاثينات من القرن 20، والتقى عندها بستالين، وأصبح فيما بعد، صديقا قريبا من ابنته الوحيدة سفيتلانا اليلوين، كما عرف العديد من المقربين من دكتاتور روسيا الشهير. ولا يتردد مؤلف السيرة بالقول ان كينان، ربما كان المثقف الأميركي الأكثر بريقا في القرن الماضي.
ونقرأ في توصيف كينان، أنه كان الرجل الذي اخترع عقيدة كبح الاتحاد السوفييتي- التي أنقذت الغرب من الستالينية، خلال سنوات الأربعينات من القرن الماضي، وهيأت الطريق من أجل الانتصار عليه في عام 1989، ذلك عندما انهارت الإمبراطورية السوفييتية. كما يتم التأكيد بالمقابل، على أن كينان كان مفرطا في توجهه المحافظ المتطرّف.
وبعيدا عن مقولة انه من واجب الولايات المتحدة، التدخل في الخارج، من أجل إشاعة الديمقراطية. وأنه عارض الاعتراف الأميركي بإسرائيل. وينقل المؤلف من كينان قوله في مقابلة صحفية له عام 1976، أي عام الذكرى المئوية الثانية لتأسيس الولايات المتحدة الأميركية، أن هذه البلاد ستعرف أشكالا من العجز، لا بد وأن تكون مأساوية وهائلة في مجال التطبيق. ومن ثم أضاف:" ان حال أوروبا ليس أفضل". وهذا مع إشارته إلى مختلف أشكال الفوضى والظواهر الاجتماعية، والتي تشير كلها إلى حالة من التحلل المخيف.
كان جورج ف. كينان، بعيدا عن التفاؤل حيال مستقبل البلاد التي خدمها طيلة عقود، في الداخل أو في الخارج، كسفير لأميركا في موسكو وبلغراد. وكان جورج وولكر بوش، الرئيس الأميركي السابق، قد قلّد كينان ميدالية الحرية.
ويشرح المؤلف في هذا السياق، أن كينان كان متشائما حيال أميركا ومستقبلها. وذلك على خلفية: "الحنين إلى أميركا، والتي عرفها من خلال سنوات شبابه". وفي وسكنسون بطرقها الترابية، وخيولها وغياب الهواتف عنها. وكذلك يرى المؤلف، بعض جذور التشاؤم لدى كينان، في سيرة حياته الشخصية. فأمه توفيت بعد شهر واحد من ولادته في عام 1904، وقد كتب هو نفسه في مذكراته لاحقا، ان وفاتها كان لها أثر كبير في حياته لاحقا. وكان والده محاميا، ولكنه كان بعيدا دائما عنه.
وأما الشخص الذي كان له أثر كبير في حياته، فهو جده الذي حمل فيما بعد، اسمه :جورج فورست كينان. وهذا الجد سافر عبر سيبيريا، في عام 1865. ونال شهرة كبيرة، كخبير متخصص بروسيا. وقد كتب كينان، الحفيد، فيما بعد: "أعتقد أنني أردت بطريقة غريبة، متابعة العمل الذي قام به". ويحدد المؤلف القول ان الورقة الرابحة الكبرى، التي امتلكها جورج ف. كينان، خلال سنوات شبابه، كانت قابليته الهائلة لتعلّم اللغات، ولم يكن ذلك بعيدا عن عمله، في سلك الخارجية الأميركية، حيث عمل أولا في ألمانيا، ثم في موسكو التي تركها فرحل إلى براغ ومن ثم برلين.
ومنذ بدايات كتاباته المنشورة، أولى اهتمامه لدراسة السياسة الأميركية حيال الاتحاد السوفييتي. وتتم الإشارة في هذا الصدد، إلى رسالة من ثماني صفحات، كان كينان قد بعث بها إلى أحد أصدقائه في عام 1945،وتحدث فيها عن "حالة الانقسام" التي كانت تهدد أوروبا.
وأشار إلى ضرورة التفكير بالوصول إلى اتفاق مع ستالين، وخلق مناطق نفوذ غربية منفصلة عن الدائرة الروسية، وترك الروس خارج دائرة النفوذ الغربية. وذلك ما حصل في يالطة، بين روزفلت وتشرشل وستالين.
وبالمقابل، كان كينان على قناعة بأن الاتحاد السوفييتي السابق، لم يكن قادرا على ابتلاع أوروبا الشرقية. ويشير المؤلف الى أن مثل تلك القناعة، كانت قائمة على قراءة كينان لكتاب "انحطاط الإمبراطورية الرومانية وسقوطها".
ومنذ عام 1946، عندما كانت أميركا "الرسمية"، تبحث فيها عن إجابة منسجمة، بشأن النزعة الحربية لدى ستالين، قدّم كينان وثيقة، جاءت في اللحظة المناسبة، أكد فيها أنه لا ينبغي البحث عن التقرّب إلى السوفييت. وأضاف ان منظور الحرب السوفييتية ضد الغرب الرأسمالي، مؤكدة.
ومن ثم، قدم في العام 1947، وثيقته الثانية، تحت عنوان: "المجهول في مجال العلاقات الخارجية". وشرح فيها أن الحرب ضد موسكو، ليست ضرورية، ولكن ينبغي صدّ مشاريعها. وهكذا كان كينان هو صائغ الحرب الباردة.
"مثل المدرس"
كان كينان يعيب على الولايات المتحدّة الأميركية، طريقة تصرفها، كـ"معلّم المدرسة"، الذي يوزّع أوراق العلامات على جميع البلدان الأخرى، بينما هي لا تملك في الأصل، أي حق أو واجب، في شأن التصرف بتلك الطريقة التعسفية جدا. لا بل كان عليها أن تهتم بأمورها الخاصة.
الكتاب: جورج ف. كينان
سيرة حياة أميركية
تأليف: جون لويس غاديس
الناشر: بنغوان برس نيويورك 2011
الصفحات: 800 صفحة
القطع : المتوسط
George F. Kennan : an american life
John Lewis Gaddis
Penguin Press- New York- 2011
800 .p
