عندما يصل الإنسان سن البلوغ يأخذ جسده، شكله النهائي على صعيد النمو، بحيث يتوقف طوله عند حدّ معين لا يزيد بعده مليمترا واحدا، والأمر نفسه بالنسبة لمختلف أعضاء البدن في حالاته الطبيعية. فهل يمكن قول الشيء نفسه بخصوص الدماغ؟
جان ماري فانسان، وجان ديدييه لود، الأخصائيان بعالم الدماغ البشري يجيبان على هذا، في كتابهما، والذي يحمل عنوان "الدماغ على المقاس"، بالقول ان دماغنا "ليس برتقالة اكتملت مرة واحدة وإلى الأبد عندما نصل إلى سن البلوغ. بل على العكس إنه، أي الدماغ، يتطور طيلة مسار الحياة (تبعا لتاريخنا ولثقافتنا. وعلى خلفية مثل هذه المقولة يؤكدان أن هذا يفتح الآفاق أمام أولئك الذين يعانون من اختلاطات دماغية، بسبب حادث أو جراء علّة دماغية طارئة.
فهل يمكن تصور استعادة القدرة على النطق والكلام بالنسبة لمن تعرّض لنزيف وعائي دماغي؟ وهل يتوجه العالم نحو ممارسة طب جديد؟ وهل يمكن تصور إمكانية إحداث تعديلات في الدماغ البشري بحيث يصبح حقيقة (دماغا على المقاس، أو حسب الطلب)؟ وسؤال أكثر عمومية: ماذا تخبئ العلوم العصبية من جديد على صعيد زيادة قدرة الذاكرة، وربما التوصّل إلى الرؤية "الليلية" الكاملة؟ هذه هي بعض الأسئلة التي يطرحها مؤلفا الكتاب في البداية.
المسألة الأولى التي تتم الإشارة اليها أن الطب الحديث تجاوز الثنائية القديمة التي سادت لفترة من الزمن، والقائلة بوجود جهاز عصبي من جهة، وهرمونات من جهة أخرى، أي ما يعني وجود منظومة تسير حسب سرعتين: سرعة بطيئة للهرمونات تتحكم بالتوازنات بين عمل وظائف البدن. وسرعة أخرى يقررها الجهاز العصبي لتأمين وظيفة التأقلم المباشر وإدارة الحركات والمشاعر.
واليوم غدا هناك علم جديد يحمل تسمية علم الأعصاب والغدد، الذي يؤكد أن الدماغ هو الذي يتحكم بآلية عملية الجسد الإنساني، بواسطة الهرمونات. وهذا على أساس أنه هو نفسه، أي الدماغ، عبارة عن غدة. وغدة تفرز هرمونات تنظم عمل الغدد الأخرى، القادرة هي نفسها، بالوقت ذاته، على تغيير آلية عمل الدماغ جزئيا على الأقل، وبالنتيجة هناك مجموع يتألف من "جسد-دماغ" يتحكم فيه ما يمكن تسميته بعلم الأعصاب والغدد. ومجموع التوازنات الكبرى التي تحكم حياتنا، تتعلّق بالهرمونات المرتبطة بدورها بالدماغ. وهذا الدماغ يتكيّف مع الوسط العام المحيط به.
ويشرح المؤلفان على مدى صفحات عديدة من الكتاب، كيف أن الدماغ البشري وصل إلى ما هو عليه اليوم من النضج، عبر مسيرة طويلة بدأت منذ فترة ما قبل التاريخ، وتطوّر تدريجيا على مدى ملايين السنين. ثم ينتقلان إلى عرض سلسلة من المفاهيم الطبيّة، ومن القاموس الذي استخدمته العلوم الإنسانية في مقاربتها للمسائل المتعلقة بالدماغ الإنساني.
إن المطلوب من القارئ عبر هذا العرض العلمي، هو الوصول إلى درجة من التأقلم مع المواضيع التي يتعرّض لها المؤلفان لاحقا، في الفصول التالية، عن ورشة الدماغ والدماغ الرائع وأفضل الطرق من أجل لتكييف الدماغ مع محيطه، كما تقول عناوينها.
ويتم تشبيه الدماغ بـالأبنية التي تشاد على أسس ما سبقها. وكذلك يقوم الدماغ على آثار ماضينا السحيق، كما يكتب المؤلفان ويضيفان: "إن الدماغ وحتى لو كان بالغا، يشكّل ورشة مستدامة". وهذه هي إحدى الرسائل الأساسية التي يتضمّنها الكتاب. وهذه الرسالة تخالف تماما، المقولة السائدة والمقبولة عموما من الجميع، القائلة بان دماغنا يفقد باستمرار "النورونات"، اعتبارا من بلوغ الانسان سن العشرين.
وأما تطور الدماغ الإنساني، فإنه يرافق حياة صاحبه منذ الفترة التي يكون لا يزال فيها جنينا في بطن أمه. ويشرح المؤلفان أنه منذ 112 أسبوعا من التكوّن، يتم إنتاج أكثر من 250000 نورون في كل دقيقة، ليصل العدد إلى ما بين 20 و30 مليار نورون عند الولادة. ومنذ أن يبلغ الوليد شهره ال12، تتطور لديه قدرات إدراك مدهشة، إذ يصبح قادرا على الحساب والتوقع.
ونقرأ في هذا السياق: "البشر يولدون غير مكتملين، بحيث عليهم أن يقوموا ببناء 80 بالمئة من دماغهم بعد الولادة. وذلك البناء يتم تبعا للوسط المحيط. ولكن بفضل هذا التأخير في التطور، يتحرر الدماغ من دكتاتورية المورثات الجينات- كي يبني نفسه، تبعا لثقافة صاحبه". وتلك هي المفارقة الأولى للدماغ.
والمفارقة الثانية تتمثل في القول: "عندما يتم الوصول إلى الحالة الأكثر اكتمالا للدماغ، بحوالي سن العشرين، لا يتوقف عن كونه ورشة مستمرة. بل إن مسيرة إنتاج النورونات لا تتوقف. وهذا يفسر واقع أن أشخاصا تجاوزوا الخامسة والسبعين من العمر، يحتفظون بسمتهم كمراهقين خالدين، زاخرين بالنشاط المتجدد. وبالمقابل فإن الشباب الذين يتوقفون وهم في سن الخامسة والعشرين، عن تنشيط دماغهم، يتضاءل كثيرا لديهم، او قد يتوقف، إنتاج النورونات، ويغدون أقل نشاطا.
ويبقى السؤال: إلى أين ستمضي مغامرة العلم في القرن الحادي والعشرين؟ هذا ما يطرحه المؤلفان في نهاية كتابهما.
الكتاب: الدماغ على المقاس
تأليف: جان ماري فانسان، جان ديدييه لود
الناشر: اوديل جاكوب باريس- 2012
الصفحات: 290 صفحة
القطع: المتوسط
Le cerveau sur mesure
Jean Marie Vincent,
Jean Didier Lledo
Odile Jacob - Paris- 2012
290 .p
