كثر النقاش خلال السنوات الأخيرة، وصدرت سلسلة من الكتب والمقالات، حول موضوع محدد، وهو تهديد الغزو الثقافي الخارجي، الأميركي تحديداً، للقارة الأوروبية القديمة.

هذا الموضوع يعود من جديد في كتاب لمدير "إذاعة فرنسا الثقافية"- المسؤول السابق (لفترة عقد كامل) عن السياسة الثقافية العالمية في وزارة الخارجية الفرنسية، باتريك بوافر دارفور، وذلك تحت عنوان: "الثقافة.. في غرفة الطوارئ".

يعود المؤلف في البداية إلى التذكير بسنوات الثلاثينات من القرن الماضي، العشرين، حيث تبنّت الولايات المتحدة الأميركية، في ظل رئاسة روزفلت، ما عُرف بخطة "الإصلاح الجديد"، من أجل معالجة الآثار المدمّرة التي ترتبت على الكساد الكبير، نتيجة للأزمة التي انطلقت في أميركا وأوروبا، عام 1929. وامتدت إلى السنوات الأولى من العقد التالي.

إن أوروبا لا تزال "تدفع حتى الآن الثمن الباهظ المترتب على مشروع الهيمنة الأميركية، كما يشرح المؤلف. ثم يسأل عن ما إذا كانت فرنسا لا تزال تستطيع مواجهة التحدي، باعتبارها جسراً ثقافياً إلى أوروبا كلها، والمراهنة على الاستثمار والنمو الاقتصادي وبالتالي خلق واقع ثقافي جديد؟"

الإجابة التي يقدمها اوليفييه بوافر دارفور، على مدى صفحات هذا الكتاب تقول: نعم. ولكنه يحدد عدداً من الشروط التي لا بد من تحققها للوصول إلى الغاية المنشودة، وفي مقدمة هذه الشروط، بل في جوهرها، ضرورة أن تصبح الثقافة من جديد في صميم المشروع السياسي، وذلك بمعنى أن تصبح الثقافة خياراً حضارياً حقيقياً. ويشير المؤلف في هذا السياق، إلى أن مثل الخيار وتلك الأهمية الجوهرية للثقافة، جسّدها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، والذي يتم وصفه بأنه كان مثقفاً بامتياز.

ويرى المؤلف أن محاولات الهيمنة الثقافية الخارجية، يمكنها أن تكون حافزاً حقيقياً من أجل رفع التحدي، وبالتالي يمكنها أن تكون حظاً للنهوض، وليس أفقاً مسدوداً. والإشارة إلى أنه مثلما هو الحال في الصناعة، كذلك في الثقافة، فهما من المجالات التي تجمع بينها نقاط مشتركة عديدة، وبذا يمكن تحقيق التقدم على المسارين.

ويجري التأكيد على أنه يمكن لبلد مثل فرنسا، رفع قيمة قصورها ومعالمها الثقافية المختلفة، وهي كثيرة، مثلما ترفع كفاءة خدمات مطاراتها. وأيضاً فإن التفوّق في مجال التكنولوجيات المتقدمة، لا يتعارض أبداً، مع تطوير الحدائق الطبيعية.

والحقيقة الثابتة التي يؤكد عليها المؤلف، بأشكال مختلفة في تحليلاته، تكمن في قوله ان ثروة الأمم تكمن في رأسمالها الإنساني والاجتماعي. ولا يتردد في هذا السياق، عبر حديثه عن أزمة الثقافة، باعتبار أن حرب محتوى الثقافة وأفكارها، قد بدأت. وأنه ينبغي على فرنسا وعلى أوروبا، وعلى مختلف الأمم في جميع مناطق العالم، أن ترفع التحدي الذي تطرحه الثقافة المعولمة، والتي تتمثل في السياق العالمي الراهن بالنسخة الأميركية خاصة، أنكلوسكسونية عامة.

ومع التأكيد على حاجة الأجيال الجديدة إلى قدر من الاستقلال الذاتي، يركز المؤلف على ضرورة أن تتبنى المدارس ممارسات مؤطّرة. وهذا يتطلب أن تأخذ السلطات الثقافية دورها في تحديد مكان العلم والتكنولوجيات والتربية والتعليم العام والفني واللغة، وذلك عبر تضافر جهود مختلف الجهات العامة المعنية.

والصيغة التي يقول بها المؤلف من أجل تحقيق نهوض ثقافي قادر على مواجهة تحديات الهيمنة الخارجية، تبدو في الواقع كنوع من خطط الإصلاح الجديد، على الطريقة التي كانت قد طبقتها الولايات المتحدة في ظل رئاسة روزفلت، في سنوات الثلاثينات من القرن الـ20.

ولكن خطة إصلاح "على الطريقة الفرنسية" عبر عدة محاور أساسية تكمن في تكريس استثمارات كبيرة بمجالات التعليم، ولا سيما فيما يتعلق بالمشارب الثقافية، وبالوصول إلى عقد نوع من الميثاق بين العلم والتكنولوجيا والثقافة، بغرض تأمين الدعم المتزايد للإبداع، وكذلك الانفتاح على ثقافات العالم الأخرى. والتأكيد في هذه المجالات كلها، على ضرورة المشاركة الكبيرة والفعالة للمواطنين.

والقناعة النهائية التي يخرج بها المؤلف، تكمن في اعتباره أن فرنسا، والتي لا تمثل سوى نسبة واحد بالمائة من سكان العالم، وأيضاً تواجه عولمة متسارعة ويلوح دائماً أمامها طيف الأزمة الاقتصادية، لن يمكنها أن تتميز سوى بثقافتها ولغتها وقدرتها على خوض حرب ناعمة للنفوذ، أي أن تكون نوعاً من القوة الهادئة، كما كان يردد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران.

 

 

 

 

الكتاب: الثقافة في غرفة الطوارئ

تأليف: اوليفييه بوافر دارفور

الناشر: تشو باريس 2012

الصفحات: 146 صفحة

القطع: الصغير

 

 

 

Culture, létat dصurgence

Olivier Poivre DصArvor

Tchou - Paris- 2012

146 .p