توفي الروائي والرحالة البريطاني بروس شيتوين عام 1989، حين كان في التاسعة والأربعين من عمره. وقد عمل في بداية مسيرته المهنية، في صالة سوثبي، للبيع بالمزادات، بصفة خبير في مجال الفن الانطباعي. ولكنه توقف عن العمل فيها، بعد ان ضعف نظره وتعب، من التدقيق في اللوحات الفنيّة، ليسافر بعدها إلى إفريقيا، حيث زار عددا من البلدان، وفي عدادها السودان.
وتحوّل بعد ذلك، الى دراسة علم الآثار، ولم يستمر اهتمامه الجديد، سوى عامين فقط، إذ بدأ بعدها، ومنذ عام 1972، العمل كمستشار في مجال الفن، لدى مجلة "ساندي تايمز ماغازين". ثم كانت الكتابة الروائية مهنته، خلال العقدين الأخيرين من حياته.
ترك بروس شيتوين كماً كبيرا من الرسائل لزوجته اليزابت شيتوين، وايضا لعدد من أصدقائه والمقرّبين منه. ويضم كتاب "تحت الشمس"، مجموعة من هذه الرسائل التي اختارتها زوجته بمساعدة الكاتب نيكولا شكسبير.
ومن ما يؤكد عليه شيتوين في رسائله، أنه كان مولعا إلى درجة التطرف، بما يسميه: "الفراديس المشبعة بالشمس"، مثل : اليونان واسبانيا وبلدان جنوب المتوسط. وكذلك يبدو مولعا بالجمال، كما يعبر بوضوح وحماسة في رسائله. وهذا إلى جانب امتلاكه قدرة كبيرة على سرد الحكايات، حول ما يراه، أو ما كان يعيشه، أو عندما يتحدث عن اللوحات الفنية، إذ لم يكن يتردد في تقديم النصائح لأصدقائه عنها.
وتحتوي الرسائل المقدمة، على الكثير من الآراء حول المناطق التي زارها. وهكذا نجده يقول عن ليما عاصمة البيرو، أنها مدينة باهتة، ويكتب عن بلاده انجلترا: "انجلترا اليوم صغيرة.إنها عالم من المخازن المتخصصّة بالموضة وغيرها من الأشياء التي تدعو إلى التذمّر والاكتئاب، ولا شيء آخر يثير الاهتمام".
ولا يتردد المؤلف، في إظهار نوع من البغض حيالها، لكن أيضا حيال ساسة عصره وفي عدادهم رئيسة وزراء الهند السابقة انديرا غاندي، وتأكيده أنه لم يكن يبحث في ترحاله عن عالم أفضل، لكن بالأحرى عن عالم يمكنه أن يقبله. هذا بمعنى أنه لم يكن من صنف أولئك الرحالة الذين يبحثون عن اكتشاف الآخر، بل عن اكتشاف الذات.
وفي رسالة كتبها لأمة "مرغريتا شيتوين" من أفغانستان التي وصلها انطلاقا من "مشهد" في إيران يصف البشر الذين صادفهم في "هيرات" حيث ترتدي النساء "البراقع" ويضع الرجال على رؤوسهم "عمائم ضخمة" مصنوعة غالبا من "الحرير ذي اللون الوردي الفاتح".
أما المركبات التي يجرّها البشر التي صادفها في الأسواق فإنها "لم تتغيّر منذ أن استقل الاسكندر المقدوني إحداها للانتقال من أفغانستان إلى الهند". هذا إلى جانب إشارته أن "هيرات" لا تزال تحتوي على الكثير من الأبنية التي تعود إشادتها إلى الحقبة التي كانت فيها "أحد أكبر المراكز التجارية في آسيا". إن هذه الرسالة تمثل بمجملها وثيقة عن صورة تلك المدينة الأفغانية ولكنها تحتوي أيضا، وخاصة، نبذة عن تاريخها وعن تاريخ أفغانستان عامة.
كذلك يكتب بروس شيتوين في أحد رسائله عن أفغانستان: "لا نزال نرى في عموم أفغانستان قوافل الإبل التي تهيم شاردة ذلك أن البلاد أصبحت سوقا للملابس التي تتدلّى بألوانها الزاهية على جوانب المركبات. وما يثير الاستغراب في هذا الموقع المتقدم من الشرق الحر هو أن تلك الملابس كلها هي من صناعة غربية (...). ومن يريد دراسة الموضة الحديثة قد لا يستطيع أن يجد متحفا أفضل للثياب من هذا المكان".
ويشير الكاتب أن جميع بيوت الأزياء الأميركية الكبرى كانت موجودة في أسواق أفغانستان آنذاك من شيكاغو إلى هوليود، ومن "القطيفة المخملية السوداء" إلى "الدانتيل الأحمر".
وتحتوي الرسائل المنشورة في هذا الكتاب شرحا لرؤية صاحبها للحياة ولفلسفته في العيش. ونقرأ في رسالة وجهها إلى صديقه "مايكل كانون" عام 1966 ما مفاده: "ربما أنك قد علمت بتركي للعمل في صالة سوتبي للبيع بالمزاد العلني من أجل تحضير شهادة جامعية بعلم الآثار في ادمبورغ. إن التغيير هو الشيء الوحيد الذي يعطي مبررا للحياة. ينبغي أن لا نبقى دائما مسمّرين خلف مكتب، ذلك أن مختلف أشكال التقرّحات والأزمات القلبية قد تكون هي عواقب ذلك".
ويكتب شيتوين من أحد فنادق "بيونس ايرس" في الأرجنتين لزوجته "اليزابت شيتوين"، التي قدمت لهذا الكتاب واختارت رسائله، ما مفاده: "بيونس ايرس هي مزيج غريب تماما من باريس ومدريد، لكن دون أي عمق تاريخي". لكنه يؤكّد بكل الحالات على جمال المدينة الأخّاذ.
ثم يقدم توصيفا لواقع تعامل الأرجنتينيين مع الانجليز الذين تربطهم معهم علاقات تاريخية ومع لغتهم حيث "لم يعد الأرجنتينيون من أصل انجليزي يمتلكون طلاقة الحديث بلغتهم الأصلية". ويضيف "بينما أن بعض أبناء البلاد الأصليين يتحدثون الانجليزية أفضل مني أحيانا".
ومن رسالة إلى أخرى ينتقل الكاتب بقارئه إلى عوالم جديدة وإلى آفاق جديدة عبر الحديث عن الأمكنة والبشر والتاريخ. وبالمحصلة يساعده على التعرّف على أشياء كثيرة في رحلة عبر العديد من أصقاع العالم...ولكن من خلال صفحات هذا الكتاب.
الكتاب: تحت الشمس رسائل بروس شيتوين
تأليف: بروس شيتوين
الناشر: فايكنغ بوك لندن 2011
الصفحات: 554 صفحة
القطع: المتوسط
