تحكي رواية " السيرة الحلبية"، لوليد إخلاصي، عن قصة كاتب وروائي، يدعى: " سلام المحارب "، وصل إلى عمر الشيخوخة، في السبعين من عمره" الفترة القاحلة "، ويحسّ بأن جراد الوحدة، أتى على كل أعشاب أرضه وأشجارها، فلم يبق من حياته سوى تراب يابس لا تنمو فيه فكرة أو لغة .
وتصور لنا تفاصيل الرواية هذا الكاتب، وهو في فترة القحط، جالسا في مكتبه، ويقلب الأوراق البيض التي تركها منذ شهور، والتي لا تزال تحتفظ بعذريتها، فيفشل، ويسترجع الأعمال السابقة التي كتبها، فلا يستطيع فعل شيء، فقد سجن المحارب نفسه، فلا يغادر البيت إلا لطعام يحضره أو دواء يشتريه أو لزيارة قبر الراحلة :(زوجته).
وفي هذا الطقس الذي يضعنا فيه الكاتب وليد إخلاصي، في ظل صورة بطله تلك، ينهمر الخلاص بهاتف من إحدى شركات الإنتاج التلفزيوني في دبي، حول مسلسل يكتبه المحارب، فيحسّ الرجل بأنه مقبل على مرحلة جديدة من شيخوخته، وهنا يطير البطل، إلى دبي " ليستعيد حياته المنتجة، والتي لم يبق من عنوان لها سوى الكتابة. ويطلعنا إخلاصي على تفاصيل سردية شيقة في سيرورة تطور الاحداث. فنجد أنه، وبناء على تدخل السيدة زوجته عن طريق الأوهام، يقرر هذا البطل أن يكتب " السيرة الحلبية " .
ويقدم لنا إخلاصي " عبد القادر حلبي "، الشخصية الثانية في السيرة، والذي يعمل أجيراً في أحد الحانات، ومن ثم و"بقدرة قادر" ، ينتفض فيه الإباء، فيرفض الاحتلال، ويقرر أن يكون مع الثوار، فينزل إلى جبل الزاوية خفية، ويقاتل معهم، وتبقى كلمات إحدى الأغاني التي قيلت في إبراهيم هنانو، رمز الرجولة والرجال، تهديه إلى الطريق الصحيحة والأفضل :
" طيارة طارت في الجو/فيها عسكر فيها ضو/ فيها إبراهيم هنانو/مركّب ابنو قدامو ".
وفي جوّ من الفرحة، يُقرر لعبد القادر أن يتزوج من أمّ الخير، ويكون وسط زغاريد النسوة "، إيذاناً بدخوله على عروسه التي لم يسبق له أن قابلها، ثم تنجب لـه: إبراهيم وعائشة .
ونتعرف على حقيقة مهمة، وهي انه على خلفية العمل، سيؤرخ الكاتب لرحيل الفرنسي والانقلابات العسكرية والوحدة والانفصال وحرب الأيام الستة وحرب تشرين . وبعد ذلك، تموت الزوجة ليصبح عبد القادر مزواجاً، فيتزوج جليلة التي ينجب منها ولداً اسمه إسماعيل، فيكبر ويذهب الى خدمة الوطن(الخدمة الالزامية العسكرية)، ثم يضيع، لنكتشف بعد ذلك أنه منخرط في التنظيمات الدينية، ويقتل في دمشق، وهو تحت اسم " أبو عبيدة "، وذلك مع اثنين من أصحابه .
ثم تموت الزوجة الثانية ويتزوج الثالثة.. ولكنها تهرب من هذا الزواج لأن الرجل أكبر منها بكثير . ويتزوج للمرّة الرابعة من ابنة رئيس العمال.. وتحمل منه، وتنجب له ولداً يسميه القاسم .وعقب ذلك، يشتري عبد القادر، الخان من الورثة، بأموال الزوجة الأولى، ويقرر أن ينمي مشروعاته، فيحوله إلى مصنع للعلف، بآلات حديثة .
ويساعد عبد القادر في العمل الروائي، ابنه إبراهيم الذي ينال الشهادة الثانوية، ويقرّر أن يتطوع في سلك الشرطة كضابط، ولكنه في الانفصال يسرّح بحجة أنه ينتمي إلى التنظيم السابق، ويتزوج من الفلسطينية " ليلى " التي تحظى على يديه بنهاية لحياة التشرد والفقر.
ولكنه لا ينجب منها . وفي إحدى المرّات يأتيه ملثمان يحاولان اغتياله ولكنهما يفشلان .وأما صفية، من بين شخوص الرواية، فهي طالبة تدرس في كلية التجارة، وتساعد والدها في إدارة المعمل وحساباته، وإبراهيم يعمل في المحاماة، وعائشة تفتح عيادة لها، وجمال طالب في الجامعة. ومن ما نقرؤه في الرواية، في مقطع خاص يعكس تفاصيل الصراع وتصاعد الاحداث في الرواية: "
في صباح باكر سُمع ضرب بأعقاب البنادق على باب الدار، فإذا بالجنود يتدفقون بأسلحتهم على باب الدار، فيخرج عبد القادر مذعوراً ليشاهد المسلحين في كل زاوية من فسحة الدار ". وهنا يغلق الكاتب سيرته على التنظيمات الدينية، وما فعلته هي وغيرها بالبلد .
كما نجد أنه يتوقف المحارب عن متابعة الكتابة في السيرة الحلبية، ويعود إلى الفشل من جديد، لا بل يتوهم أنّه وبطل السيرة واحد، وتلاحقه أصوات النساء. وفي النهاية يقرّر أنه فشل فيمزق السيرة، ويقول : " وداعاً لأيام الكتابة". ثم يخرج إلى الحديقة، ويتأمل شجرة الجوز راجياً أن تبقى له هذه الشجرة التي كان المارّة يقطفون ثمارها ".
تمثل الرواية، عملا متشابكا في احداثه وشخصياته، فنجد فيها بعضها نام وآخر ينمو ببطء، طيلة زمان امتد من فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، وحتى الثمانينات من القرن الثاني، وذلك في مكان يسمّى " السيرة الحلبية "، في بيئة عمرها من عمر التاريخ . ويستخدم الكاتب طريقة السرد المباشر، وذلك باستخدام ضمير الغائب في الحديث عن الشخصيات.
ويوضح الكاتب في احداث الرواية وتفاعل احداثها، ان الحلبي لا يرضى الضيم على نفسه ولا على الآخرين، وبذا يشارك بالثورة ضد المحتل، وبالأحداث التي تتم بعد ذلك. وهكذا تظهر لنا الرواية إنها تاريخ في سيرة، وسيرة في تاريخ عن العائلة المعاصرة. وتبدي لنا، باسلوب شيق، كيف ان الحلبي بطبعه مزواج، لأنه يحب الأولاد، وتوضح لنا الرواية ذلك، بانه هكذا وجدناه في تاريخ أهل حلب المعاصر .
الكتاب: السيرة الحلبية رواية
تأليف: وليد إخلاصي
الناشر: وزارة الثقافة الهيئة العامّة السورية للكتاب دمشق 2011
الصفحات: 248 صفحة
القطع: المتوسط
