يركز كتاب "إفريقيا القادمة"، لمؤلفه، الدبلوماسي والباحث الليبي، عبد الرحمن، ومنذ البداية، على الجوانب الثقافية في إفريقيا، من أدب ونحت ورسم وغناء ولغويات وسواها، من ما يعد أدوات حضارية تؤثر مباشرة في رسم صورة المثل الأعلى الحضاري لقوَّة هذا التحرك.

فالبطل الإفريقي - في عود على بدء- حسب مواصفات البطولة القديمة، يتراجع كل يوم مع كل خطوة تتقدمها المدنية والمدينة لتحتوي أجزاء أكبر من الغابة، ولكن مع تقهقر الغابة، بطبولها وألوانها الزاهية والرقصات الصاخبة، وتنتقل رائحة الغابة والبحيرة وصور الأقواس، وكذا صدى الإيقاع الإفريقي القوي إلى المدينة، في صورةٍ جديدة، من خلال البحث المستمر عن صورة مفقودة.

أو بالأصح عن صورة ممزَّقة، ينطلق العديدون لجمع آثارها وإعادة ربطها، حتى توجد تلك الصورة القديمة الجديدة لقارة تريد أن يكون لها مكانها المعترف به، وسط بحور الثقافات المعاصرة، بما فيها من نظم سياسية واقتصادية وقيم ثقافية غنية، تتطور كل يوم وتتغير في كل عقد أو حقبة. ويشير عبد الرحمن شلقم إلى انه في إفريقيا اليوم، ظاهرة مهمة تشد الانتباه وتستحق الدراسة والبحث، وهي أنَّ شروط الزعامة لا تتكامل للزعيم السياسي، إذا لم يسهم في هذه الرحلة التاريخية، من أجل البحث عن صورة إفريقيا، وربما يكون هذا الشرط هو الذي دفع الساسة إلى الاندفاع وراء التنظير والأدب والإنتاج الثقافي.

ولكن التأريخ لبداية الحياة المنظمة في إفريقيا، يبدأ مع عهدها بالحديد الذي عرفته إفريقيا الداخلية عن طريق قرطاجنة التي عرفته عن طريق الحثيين، وانتقل منها إلى إفريقيا سنة 500 ق.م، عن طريق تجارة الخيول، وفي تلك الغضون تمَّت تحركات بشرية أثَّرت مباشرة في إفريقيا. فتحرَّك بنو سبأ من اليمن عن طريق أثيوبيا إلى حدود مروى في القرون السابقة على مولد المسيح، وتوسَّع الكوشيون، على أثر ذلك، حتى وصلوا إلى موزمبيق،.

وفي الفترة نفسها توسع البانتو داخل إفريقيا بعيداً عن حوض الكونغو، حاملين معهم معرفة بالزراعة وأساليب الرعي، وترتب على جميع ذلك، نقلة حضارية في إفريقيا، نستطيع أن نقول إنها كانت إحدى حلقات التأثير الأوَّل لشعب الجزيرة العربية في القارة الإفريقية، وقد تركت هذه التحركات أثراً كبيراً في التركيب الجغرافي البشري لإفريقيا، ما يفسِّر خطوطاً كثيرة في الخارطة الثقافية لإفريقيا التي قامت بعد ذلك. ويتركَّز أقرب التفسيرات للخارطة البشرية حول حركة البانتو التي ارتبطت بحركة السبئيين والكوشيين، بأنّ البانتو كانوا العامل المهم في تكوين هذه الخارطة.

ويستعرض المؤلف واقع أن هناك القائلين بأنَّ إفريقيا هي الأم الشرعي والحقيقي لفن النحت وفن الرسم، إلى أولئك الذين يقولون إنَّ الفن الإفريقي لا يمكن اعتباره فناً على الإطلاق، فهو ليس سوى خربشات بدائية، ولكنه التقييم الموضوعي للفن الإفريقي، وأثره يتطلَّب سياقاً غير هذا السياق الجدي المتطرَّف. ففن النحت كان الفن الرئيس في إفريقيا، وشهرة (القناع) تتجاوز الأوساط الفنية، والقناع له مدلولٌ خاص في الثقافة الفنية الإفريقية، ففيه تتجسَّد الثقافة الحسِّية والخرافية والسلفية والقدرية، ويعني أيضاً الطقوس والموت والأرواح والألوان، وله استخدامات ودلالات، والألوان المستخدمة في الرسومات، هي: الأحمر والأصفر والأزرق والرمادي، فضلاً عن الأسود والأبيض.

ويبين شلقم ان الفنون مفتاح فهم مكنون ثقافة وتاريخ الحضارات والديانات والعلاقات الاجتماعية ونمط الإنتاج في المجتمعات الإفريقية، وبالتالي فإنَّ البحث عن إفريقيا الاجتماعية والاقتصادية والروحية القديمة يتم عبر باب الفن. إنَّ الأفارقة الهاربين من حزام أوروبا إلى ذات إفريقيا، هم أكثر الناس ولوعاً بالفن الإفريقي القديم، ويعتبرون أنَّه الشيء الإفريقي الذي لا يزال داخل إفريقيا، ولم تمتد إليه يد المستعمرين الأوروبيين، رغم محاولاتهم.

ويلفت المؤلف أيضا، إلى أن الموسيقى في إفريقيا هي مثل الهوية، يحملها المرء معه دائماً، سواء كان وحده أو مع مجموعة. وللموسيقى في المجتمع الإفريقي وظيفة متشعبة، فهي تستخدم في ممارسة الرقابة الشعبية، وفي ردع الخارجين على العرف الاجتماعي.

وأيضاً في المجالين الاقتصادي والديني، وفي سرد التاريخ، وفي الاحتجاج. وقديماً كنت ترى تحت أشجار الغابة الإفريقية، عشرات الأفراد ينقرون طبولهم ويتقافزون رقصاً، امتعاضاً من فعلةٍ مشينة أتاها هذا أو ذاك من أفراد القبيلة، معبِّرين بإيقاعاتهم عن غضب الناس أو الآلهة.

وأما في المجال الاقتصادي، فيوضح شلقم انه لمواسم العمل التعاوني الزراعي موسيقاها، حيث يتجمع الناس ويتراقصون على إيقاع عشرات الطبول، تعبيراً عن استعدادهم الجماعي للشروع في عملهم، ومثل هذه الرقصات تدوم لساعات طويلة. وقد تشترك فيها قبيلة أو أكثر، أو قرية أو أكثر. وفي الحكايات والأساطير الإفريقية نجد الكثير مما ينسج حول الطبل وأثره في صناعة الخوارق، لأنَّ الطبل يمثِّل الآلة الأساسية في الموسيقى الإفريقية، وللآلهة موسيقاها.

فعندما يقف الإفريقي أمام آلهته، يخاطبها بالشعر والموسيقى العربية، في إيقاعاتٍ أقرب إلى نغم المقامات العربية، خاصة في الأغاني الدينية. وتمتاز الموسيقى الإفريقية بالتكرار، مثل ذلك الذي نجده في موسيقى الزنوج الأميركيين، خاصة(الجاز) و(البلوز). واليوم، أيضا، يرقص الأفارقة رقصات جديدة على الإيقاعات ذاتها، فالقصة الإفريقية الجديدة تحمل مضموناً جديداً، وكذلك القصيدة. وحتى الموقف من الرجل الأبيض، لم يعد مجرَّد رفض للاستعمار، بل هو موقف إدانة.

 

 

 

الكتاب: إفريقيا القادمة

تأليف: عبد الرحمن شلقم

الناشر: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام بيروت 2011

الصفحات: 144 صفحة

القطع: المتوسط