بعد أن كتب جون لاكوتور، سير حياة رجال سياسة كبار، من أمثال شارل ديغول وفرانسوا ميتران، وأيضاً أدباء مشاهير، ليس أقلهم شأناً اندريه مالرو وفرانسوا مورياك. وكذلك عقب أن قدّم أعمالاً عن الجزائر، ومصر، حيث عاش في البلدين لفترة طويلة، فها هو يكرّس كتابه الأخير بعنوان: "كارمن.. المتمرّدة"، أي بطلة الأوبرا الموسيقية الشهيرة، والتي تحمل هذا الاسم.
وأوبرا "كارمن" الموسيقية، عمل من أربعة فصول، للموسيقي الفرنسي الشهير جورج بيزيه، وهي أحد أكثر أعمال "الأوبرا" الفرنسية شهرة في العالم. وكان قد جرى تقديمها للمرة الأولى في باريس، بتاريخ الـ 3 من شهر مارس، من عام 1875. ومنذ ذلك التاريخ بدأت شعبيتها الكبيرة، التي لا تزال تتمتع بها حتى الوقت الراهن.
يروي جون لاكوتور، أنه اكتشف كارمن، للمرة الأولى، في مدينة بوردو، إذ كان والده يعمل جرّاحاً شهيراً. ومنذ حضوره الأول للعرض، أصيب بالدهشة والإعجاب، واللذين لم يبارحاه أبداً، بعد ذلك. كان طالباً في المدرسة الثانوية آنذاك. وعندما فاز بشهادة تلك المرحلة، طالب بالعودة إلى دار الأوبرا لمشاهدة "كارمن"، مرة أخرى. ولم يغادره أبداً، الشغف الكبير بـ"الأوبرا".
الميزة الأساسية لهذا الكتاب، تتمثل في كون مؤلفه يحاول التقريب بين المصدرين الكامنين وراء كارمن، المصدر الأدبي مع الشاعر بروسبير ميريمي، والموسيقي مع جورج بيزيه. وهكذا يتم تقديم نوع من سيرة حياة كل منهما، ومن خلال ذلك سيرة حياة كارمن.
وعن ميريمي يحدد القول: إنه أحد الشخصيات الأدبية الفرنسية التي تركت بصماتها على الثقافة الوطنية كلها. وذلك قبل ما يزيد على القرن من تولي أديب كبير آخر هو اندريه مارلو لمنصب وزير الثقافة، ذلك في ظل رئاسة الجنرال ديغول.
ويتعرّض لاكوتور بالدراسة للعلاقة التي نسجها ميريمي، مع اسبانيا، خلال أسفاره العديدة إليها، والتي استقى منها أجواء كارمن، بل وصورتها. وذلك في سياق أجواء من شغف الباريسيين بإسبانيا، طيلة الربع الأول من القرن التاسع عشر. ويشير المؤلف الى أن تلك الفترة ليست معروفة بشكل جيد للرأي العام الذي يجهل، إلى حد كبير، أن النخب الفرنسية كانت متشرّبة بالتقاليد الأدبية والفنية الإسبانية. وقد ابتعدت في الوقت نفسه، عن التقاليد الأوروبية الأخرى.
والتذكير بأنه ينبغي عدم نسيان واقع أن اسبانيا كانت مسرح أحداث الكثير من الأعمال الروائية الفرنسية، والتي ليس أقلّها شهرة، الرائعة التي تحمل عنوان "السيد" لكورنيل، ورائعة "دون جوان" لموليير. أحب ميريمي اسبانيا ودرس عاداتها كعالم اجتماع، كما درس سلطاتها كمؤرخ، وذلك طبقاً لما يوضحه المؤلف.
كان ميريميه قد توقف ذات مساء، كما يروي المؤلف، في مدينة قرطبة الإسبانية. وهناك التقى كارمن التي سيروي، فيما بعد، قصتها العاصفة العاشقة للحياة وللحرية، والتي لم تكن تتردد في تدمير أولئك الذين أحبتهم، كي تنتهي هي نفسها إلى الموت المرسوم، منذ البداية، كما جاء في عمل ميريمي. وبالإجمال تبدو كارمن، وبناء على تصوير كتابة هذا الأديب، حسب ما يرى لاكوتور، تبدو كأنها مزيج من عالم الإثارة الحسية، ومن المأساة ــ التراجيدياــ اليونانية.
ويشرح المؤلف أنه بعد أن كانت قصة كارمن، كما كتبها ميريمي، قد ألهبت العقول، على خلفية إحياء حس التراجيديا اليونانية، جاء الموسيقي جورج بيزيه ليضفي على شخصية "كارمن" الكثير من الرومانسية، ومن الحياة ومن الحرية.
وإذا كان "ميريمي" قد رسم صورة لكارمن، وكأنها تعيش لحظة الغسق في الحياة، لحظة ما قبل الدخول إلى الظلمة، والقبول بالموت المحتوم، فإن الموسيقي بيزيه وضعها وسط دائرة الضوء، بحيث أصبحت كارمن رمزاً للتمرد، عقب أن تحررت من القبول بالسير إلى نهايتها المحتومة، والتي كانت قد اختارتها بكامل وعيها وإرادتها. ومن هنا بالتحديد، يأتي توصيف المتمردة، في عنوان الكتاب.
ومن التوصيفات التي يقدمها جون لاكوتور، لكارمن، أنها رائعة فنية، أدباً وموسيقى. وأنها قاسية ويائسة وساحرة أندلسية. وفي كل الحالات، وانطلاقاً من المقارنة بين كارمن، ميريميه وكارمن، بيزيه، يناقش المؤلف عدداً من الأفكار التي عرفتها فترتهما، مثل الحرية والتأكيد على قيمة الفرد.
Carmen, la révoltée
Jean Lacouture
Seuil - Paris- 2012
240 .p
