انهار جدار برلين في مطلع شهر نوفمبر من عام 1989، وعادت ألمانيا بعد ذلك بأشهر، أمة موحدة من جديد. والكاتب الألماني المولود في مدينة درسدن، يقدّم قصة احتضار، ألمانيا الشرقية السابقة، بلاد مولده حيث كان ضابط صف في عمل روائي هو بالوقت نفسه عمل وثائقي تحت عنوان "البرج". هذا الكتاب احتلّ لأسابيع طويلة رأس قائمة الكتب الأكثر انتشارا في ألمانيا وبيعت منه مئات آلاف النسخ (000 750 نسخة".

نحن في درسدن عام 1982، وبالتحديد في حي سكني يعيش فيه عدد كبير من البرجوازيين الألمان الشرقيين، من أطباء وصيادلة ومهندسين وكتّاب وشخصيات سياسية مرموقة. وقد بدا ذلك الحي وكأنه الاستثناء في ألمانيا الشرقيةالشيوعية السابقة، إذ كان ساكنوه يقومون أحيانا بعزل أنفسهم، عن نمط الحياة اليومية السائد.

كما ان شخوص هذا العمل، مجموعة من النماذج التي كانت تمتلك امتيازات في المجتمع آنذاك، ولكنها كانت بالوقت نفسه، تعيش خارجه. وهناك "مينو"، المصحح اللغوي في أحد دور النشر، وبالتالي كان عليه أن يجد باستمرار، مصالحات مع أجهزة الرقابة، وصهره الطبيب الجراح الذي كان يعيش مع زوجته الضريرة، ومع ابنه الذي أراد أن يجسّد الإنسان الجديد بالمعنى البورجوازي، الداعي لاحترام قيم العائلة والتغنّي بالثقافة وعزف البيانو. وبعد أن يقدّم المؤلف توصيفا لذلك الحي البرجوازي، بمنازله الجميلة على هضبة صغيرة، يرسم صورة لألمانيا الشرقية السابقة، ويسمّي الأماكن بمسمياتها الحقيقية، مثل:

مخبزة مالتر، مختبرات مانفرد فون اردين( الفيزيائي الألماني الشهير الذي ساهم في صنع القنبلة الذرية الروسية- ويحمل في الرواية اسم "فون اربوغاست").

ويتحدث المؤلف عن المقرّ الذي لجأ إليه الجاسوس الألماني الشرقي الشهير ماركوس وولف. ويروي المؤلف، أنه طالما توقف عندما كان طفلا أمام الباب الحديدي الذي نُقش عليه صورة عنكبوت ينسج شبكته. واصبح ذلك العنكبوت، بالنسبة له، المجاز الذي يدل على المجتمع الألماني الشرقي (المحاصر خلف جدار). وتبدو الإشارة واضحة تماما، إلى جدار برلين الشهير.

والبرج هو أيضا ذلك المكان الذي "تختلط فيه اللغات، مع رغبة الذهاب دائما، إلى ما هو أعلى، وصولا إلى الانهيار. مثلما حصل مع برج بابل. ومثلما حصل لألمانيا الشرقية أيضا، وتلك التي يرى فيها المؤلف مشروعا طوباويا، لم يكن يستجيب إلى معطيات الواقع.

ألمانيا تلك كانت قد رفعت شعار بناء مجتمع العدل والمساواة، باسم الإيديولوجية الشيوعية، وزعمت أنها تقيم عالما جديدا وإنسانا جديدا.و لكنها وجدت أن مشروعها لم يكن سوى وهم انهار، مثل جميع الأوهام.

ومن خلال شخوص الحي الذي يرسمه المؤلف في البرج، يشير بوضوح الى أنهم من موقع كل منهم، كطبيب أو أستاذ جامعي أو مهندس معماري أو رجل علم، كانوا من بين الذين ساهموا في بناء النظام القائم. ولكنهم كانوا يعيشون حالة قطيعة كاملة مع ذلك النظام، عندما يعودون إلى منازلهم، إلى حيّهم، حيث كانوا ينخرطون في عالمهم. وحيث انه لم تكن لثقافتهم أية علاقة عضوية مع الثقافة الرسمية للحزب الشيوعي الألماني الشرقي.

إن المؤلف يرسم معالم مجتمع مغلق في ألمانيا الشرقية السابقة، مجتمع كانت تسود فيه كل أشكال الرقابة والقمع. ولكنه لا يذكر مرة واحدة في عمله كله اسم ستازي، أي جهاز الاستخبارات الألمانية الشرقية السابق الشهير، ولا جهاز آي ام الذي كان يضم مجموعة المخبرين الذين كانوا يقدّمون المعلومات عن الجميع للأجهزة السرية.

ولكنه يشير إلى أن الخيانات والوشايات تفشّت بين مختلف شرائح المجتمع. ويشرح أنه كان من الصعب تماما، المحافظة على البراءة، في إطار ذلك النظام البوليسي القمعي. ثم إن جميع العلاقات كانت مسمومة. وتفهم أنه كان من المألوف أن يقدّم أحد الجيران، طلبا للهجرة إلى ألمانيا الفدرالية: الغربية، ليصفه مدير المدرسة في اليوم التالي، بأنه مشبوه ودنيء ينبغي الابتعاد عنه.

وفي محصلة التوصيف الذي يقدمه المؤلف عن ألمانيا الشرقية السابقة، يجد القارئ أن كل شيء، مما لا ينبغي وجوده في مجتمع يحترم الإنسان، كان موجودا فيها. وكان كل شيء خاضعا للرقابة حتى رسائل الحب وتفاصيل المشادّات العائلية.

وأما الجيش، فيتم رسمه على أنه كان بمثابة منظومة داخل المنظومة. وبالمقابل لم تكن تسمية جيش الشعب تترجم أي شيء حقيقي في الواقع، بينما أن الهدف الفعلي لكل أشكال التدريب، هو الوصول إلى نوع من برمجة العقول، وبالتالي السيطرة عليها. ورغم التسمية الجديدة، فإن كل الطرق القديمة ظّلت سارية المفعول، وكأن ألمانيا الشيوعية السابقة، كانت من وجوه كثيرة، بمثابة صدى لما كان سائدا في ألمانيا، عند نهايات القرن التاسع عشر.

وما يؤكده المؤلف، بأشكال مختلفة في عمله، هو أن ألمانيا الشرقيةن والتي كانت تريد أن تبدو شامخة أو عاليةن إنما كانت في واقع الأمر في طور الاحتضار. لكن القارئ لا يجد على مدى صفحات الكتاب التي تقارب الألف، أية وشاية، بل يحرص المؤلف على مرافقة قارئه في منعطفات وأسرار ذلك العالم الألماني الشرقي الذي كان مآله الانهيار. هذا ما ترسمه مشاهد وصور نظام كان يسير بالضرورة إلى نهايته.

 

 

الكتاب: البرج

تأليف: يواي تلكامب

الناشر: غراسيه - باريس- 2012

الصفحات: 976 صفحة

القطع : المتوسط

 

 

La tour

Uwe Telkamp

Grasset - Paris- 2012

976 .p