في عام 1812 قام نابليون بونابرت بحملته الشهيرة على روسيا القيصرية، بعد أن كان قد ضمّ إلى إمبراطوريته عموم مناطق القارة الأوروبية تقريباً. وبدت موازين القوى تميل في المراحل الأولى حتى احتلال موسكو، لصالح جيوش نابليون، ولكن قائد الجيش الإمبريالي الروسي ميخائيل كوتوزوف، استطاع أن يرفع همم جنوده، رغم قلة عددهم في مواجهة الجيش النابليوني الزاحف. وقد قام بهجوم مضاد.. وكانت هزيمة نابليون في روسيا.

تلك المعركة ظلت عالقة باستمرار في أذهان الفرنسيين، فهي تركزت بمثابة "المأساة الرهيبة"، كما جاء في عنوان الكتاب الصادر، أخيراً، للأستاذة في جامعة السوربون ماري بيير راي. ولا تنسى المؤلفة أن تذكّر قارئها منذ البداية، أن الروائي الروسي ليون تولستوي، كان قد تحدث طويلاً عن حملة نابليون على روسيا، في رائعته: "الحرب والسلام".

وتنقل المؤلفة عن الضابط الروسي اندرييف، الذي كان يقاتل في صفوف الجيش الروسي عام 1812م، قوله: "جرى سحق فرقتنا العسكرية تماماً. لم أكن أستطيع المرور عبر الطريق، فمضيت من خلال الحقول، حيث كانت تتكدّس خلفي أعداد كبيرة من الرجال والأحصنة الجريحة أو المبتورة، وفي حالة بغاية الرعب. إن وصفي ذلك الرعب يفوق كثيراً ما أملكه من قوة".

انطلاقاً من هذه الرواية وسلسلة طويلة غيرها من المآسي التي عرفتها معارك الحملة الفرنسية التي قام بها نابليون على روسيا، تقدم المؤلفة تاريخاً جديداً لتلك الحملة. وهو جديد فعلًا من حيث إنها المرة الأولى التي تتم فيها كتابة ذلك التاريخ بالاعتماد على معاناة البشر وآلامهم. إنه تاريخ إنساني شامل، كما تقول، لحرب قامت بها الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت ضد الإمبراطورية الروسية القيصرية بقيادة الاسكندر الأول. إنه تاريخ الجنود العاديين والمدنيين، بمقدار ما هو تاريخ أبطال الحرب. وتاريخ مواجهة بين شعبين، مزّقت أوروبا، ويبدو أن آثارها لا تزال قائمة حتى اليوم، كما تشرح المؤلفة.

وتنقل المؤلفة عن الشاعر فكتور هوغو، مقطوعة شعرية لا يزال طلبة المدارس يرددونها، على مدى القرنين المنصرمين. ومما جاء فيها:

"كان الثلج يتساقط، والهزيمة جاءت عبر الفتح

للمرة الأولى خفض النسر رأسه

أيام كئيبة، فالإمبراطور عاد بخطى وئيدة

تاركاً خلفه موسكو والدخان يتصاعد منها...".

وفي رواية "الوداع الجديد" لهونوريه دوبلزاك، الصادرة عام 1830، يكرس المؤلف صفحات كثيرة لتلك الحرب - الملحمة. ونقرأ من ما كتبه: "كان ذلك أثناء الانسحاب من موسكو. وقد كنّا أشبه بقطيع من الثيران المنهكة، أكثر مما هو من جيش كبير".

والإشارة إلى ان الفرنسيين لا يزالون يستخدمون حتى الآن، جملة تعابير، مثل: "هذه بيريزينا"، ذلك للدلالة على وجود فشل مريع أو وضع ينبئ بالكوارث. ثم إن العديد من ألعاب الفيديو ووسائل الإعلام الجديدة، تجعل اليوم من حملة نابليون على روسيا، موضوعاً لها.

تقدم المؤلفة على صفحات كتابها، توصيفاً للمأساة التي لا سابق لها، في تلك الحملة. ذلك أن المشاهد البربرية المنقولة من معاركها، فاقت كل البربريات التي عرفتها الإنسانية، وصولًا إلى أكل لحم البشر، ومذابح المدنيين. ولقد كانت حرباً شاملة، قادت أوروبا، كما تشرح المؤلفة، إلى هزيمتها اللاحقة في القرن العشرين، حيث انحسرت القوى الأوروبية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ليصعد نجم قوتين عظميين، وهما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق.

إن المؤلفة تدعو قارئها إلى ولوج الطريق المؤدية إلى معرفة مدى المأساة التي عاشها الجيش الكبير، أي جيش نابليون. لكن دون أن تنسى توصيف الحرب كما رآها الجانب الروسي. إن التوصيف يخص المعسكرين، المنتصر والمهزوم. ولا تتردد في القول، بعد سلسلة طويلة من الآراء التي تصب في الاتجاه ذاته، ان حملة نابليون على روسيا، كانت فكرة حمقاء.

لكنها تشرح بالوقت نفسه، كيف أنه لم يكن أمام نابليون سوى خوض الحرب وكسر "الحصار" الذي فرضته روسيا القيصرية على القارة الأوروبية. يتم في هذا الإطار أيضاً تفصيل الأسباب التي كانت تؤدي إلى نتيجة مفادها أن الروس أنفسهم، كانوا يستعرّضون للخراب، بسبب ذلك الحصار.

بدأ نابليون حملته بكثير من الحبور. ولكن معركة موسكو كانت فاصلة وبدّلت الحبور إلى كآبة. فانطلاقاً من تلك المعركة، أصبح هم كل جندي فرنسي، هو النجاة بنفسه. هذا رغم أن نابليون كان قد أمر بمساعدة الجرحى. ولكن الواقع، كما ترسمه المؤلفة، كان شيئاً آخر.

وتنقل المؤلفة عن إحدى الشهادات: "كان يوجد في القرى المحروقة، جرحى بؤساء اقتاتوا بلحم رفاقهم منذ مرورنا في تلك القرى". وكان "الجوع رهيباً مثل البرد القارس". وكانت معاملة الفلاحين الروس للجنود الفرنسيين الفارّين رهيبة هي الأخرى.. "لقد جرى دفن الجنود الفرنسيين أحياء، أو جرى تقطيعهم إرباً إرباً بالفؤوس". وتشير المؤلفة إلى أن القيصر الاسكندر صدمته تلك السارية، إلى درجة أنه أمر بدفع قطعة ذهبية لكل فلاح روسي يسلّم أسيراً فرنسياً للسلطات الروسية.

أما نابليون فقد كان أقل اهتماماً، بتلك المسائل، بل سمح بالرد الشرس والرهيب ضد السجناء الروس. وتنقل المؤلفة عن القائد العسكري الفرنسي كولينكور، قوله: "كانت قسوة رهيبة. تلك هي الحضارة التي حملناها إلى روسيا.

 

 

الكتاب: المأساة الرهيبة، تاريخ جديد للحملة على روسيا

تأليف: ماري بيير راي

الناشر: فلاماريون- باريس- 2012

الصفحات: 384 صفحة

القطع: المتوسط

 

Leffroyable tragédie

Marie Pierre Rey

Flammarion - Paris- 2012

384 .p