المادة الأساسية للتاريخ تتمثل في الماضي، ولكن الباحث الأميركي ماكس سينجر يكتب عن تاريخ المستقبل، كما يقول عنوان كتابه الأخير، والذي يحاول أن يشرح فيه كيف أن "شكل العالم القادم تبدو ملامحه اليوم"، كما جاء في العنوان الفرعي.
الفكرة الأساسية التي تتركز عليها تحليلات الكتاب، تتمثل في تأكيد المؤلف على أن الحياة في العالم الحديث اليوم، وغدا، ستكون مغايرة بشكل كامل تقريبا، لجميع التجارب الإنسانية السابقة. والتأكيد أيضا على أن الحقبة الراهنة ليست سوى مرحلة انتقالية تعيش خلالها، البلدان والمجتمعات كلها، حالة من التحضير للانتقال من ما هو تقليدي إلى ما هو حديث.
وبهذا المعنى يرى المؤلف، أن مسيرة التحوّل إلى الحداثة، تملك من القوّة، وهو ما يجعل انتصارها عاما وشاملا، بحيث ستكون هذه الحداثة مستقبل العالم، وتاريخه المستقبلي. وتجري الإشارة الى انه يمكن توقع ما سيكون عليه مستقبل البلدان التي هي في طور التبدّل، ذلك على ضوء المسار الذي كانت قد عرفته البلدان التي أكملت المرحلة الانتقالية، ومن ثم دخلت إلى عالم الحداثة.
ويشرح المؤلف، أن المسار الراهن نحو الحداثة يأتي بعد فترة طويلة من الزمن، ساد فيها نظام ذو طابع حربي، وكان الشاغل الأول والرئيسي لمختلف الأمم في إطاره، السعي الى حماية أمنها بواسطة القوة العسكرية والتحالفات السياسية. ويحدد القول ان نظام الحروب لن يكون له وجود في المناطق المأهولة ببلدان تنتمي مناطقها إلى الحداثة.
والمثال الذي يتم تقديمه على هذه المناطق، يتمثل في أوروبا الغربية، والتي تعرف حالة من السلام وغياب أفق الحروب، بعد حربين عالميتين انطلقت شرارتهما من أوروبا نفسها. والتأكيد على أنه ليست هناك أية دولة أوروبية، تعتقد أنها بحاجة الى السلاح ضد أية دولة مجاورة.
بالمقابل يشرح المؤلف أن "نهاية نظام الحرب" في أوروبا الغربية، لم يحصل، وذلك لكون أن الأوروبيين أصبحوا أكثر حكمة وأخلاقية، وأقل عدائية، من ما كانوا عليه قبلها. ثم إن الطبيعة الإنسانية لم تتغيّر. وكما ان الأوروبيين لا يزالون يطمحون إلى امتلاك أكبر قدر ممكن من السلطة، وربما أكثر من أي وقت مضى. ولكن نظام الحرب انتهى بسبب ما تفرضه منظومة الحداثة من علاقات، وهو ما جعل البلدان المعنية تتصرّف بطريقة مختلفة.
ومن السمات المجهولة في عالم الغد يحدد المؤلف عدد سكانه، وما يتفق حوله المتخصصّون، أن استقرار عدد سكان العالم سيبدأ اعتبارا من أواسط القرن الحالي، بالاستقرار. "إن الأمر كله يتعلّق بما سيفعله أحفادنا وأبناءهم وأبناء وأبنائهم"، هكذا يعرف المؤلف حقيقة الامر في هذا الشان. ولكن- طبقا لما يشير اليه- تبقى الظاهرة السائدة اليوم هي تدنّي معدل الولادات من جيل إلى آخر. وقليلة هي البلدان الحديثة التي نجحت في كبح الانهيار في عدد السكان. وهذا مع بروز واستفحال ظاهرة الهجرة.
ومن المسائل الأساسية التي يثيرها المؤلف، معرفة حقيقة إذا ما سيكون عالم المستقبل أفضل. او اذا كانت الثروة والحريات والسلام، ستكون أفضل، كما تقول التحليلات المقدمة. ولكن المؤلف يلفت إلى أن هذا ليس كل شيء، إذ لا تمكن معرفة إذا ما سيصبح البشر أكثر سعادة. ومن هنا قد يكمن التحدّي الأكبر، مثلما يصوغه المؤلف، والذي ينبغي على البشر مواجهته في عالم الغد، وهو إيجاد بديل للعداوات.
وذلك أن هذه العداوات وما نجم عنها من حروب، هي التي صاغت تاريخ البشر في الماضي. ويقال ان تاريخ العالم تصنعه الحروب، ومن هنا جاء التأكيد على نهاية التاريخ عند سقوط الشيوعية، الامر الذي اعتبره الغرب انتصارا حاسما ونهائيا لليبرالية.
الملامح الأساسية لصورة عالم المستقبل تتمثل في وجود بلدان أكملت انتقالها إلى الحداثة. وكذلك في واقع ان بعض البلدان من مختلف مناطق العالم ومن ثقافاته، قد قطعت شوطا كبيرا على طريق التحديث. وذلك عبر تجربة استمرت قرنين من الزمن.
ورغم تفاؤل المؤلف بمستقبل العالم الحديث، فهو يشير الى أنه، ورغم مكافحة الفقر والاستبداد والحروب، يمكن للعالم الحديث أن يكون أكثر سوءا من القديم، ذلك بسبب استمرارية نزعات النفس البشرية.
الكتاب: تاريخ المستقبل
تأليف: ماكس سينغر
الناشر: لكسينغون بوك- نيويورك- 2011
الصفحات: 198 صفحة
القطع: المتوسط
History of the future
Max Singer
Lexington Books- New York- 2011
198.p
