يناقش كتاب"المجتمع والدولة"، لمؤلفه، الاب باسم الراعي، مجموعة من التساؤلات المرتبطة بمفهوم الدولة والمجتمع، حقائق الفكر السياسي المعاصر، ويستعرض في هذا السياق، عدة جوانب، منها: هل يمكن القضاء على الدولة؟وإذا لم يقضَ عليها فهل تمرُّ بكسوف، أم أنَّ الدولة في حال تبدل وصعود ؟
وتشكل موضوعات الكتاب، والتي هي عبارة عن جملة دراسات للاب الراعي، كتبها وقدمها في فترات ومراحل مختلفة من حياته، تركز على بحث ومناقشة موضوع المجتمع والدولة والتحولات التي طرأت عليهما وأشكالهما في مرحلة تاريخية، ضمن مرحلة وصفت ب "زمن مابعد الدهرنة". غير أنَّ المؤلِّف سرعان ما يرى أنَّ الموضوع في نظر منتقدي الدولة من الأصوليين والماركسيين، ليس صعودها أو كسوفها، بل سبل تأقلم الدولة الحديثة مع الشروط المجتمعية المتبدلة التي ظهرت في نهاية القرن العشرين، والتي من المحتمل أن تستمر بتأثيرها في مستقبل الدولة ووضعها.
لكن هذا يبعث على الاستفسار عن مصير دولة الدستور الاجتماعية الديمقراطية الحديثة، فهل تكون نقطة انتهاء في تاريخ الحكم السياسي؟ ويشير المؤلف هنا إلى أنَّ التاريخ يزيل كل لبس في تصور نهاية للدولة. فالدولة في حال تجدد دائم واكتشاف لمهامها ولمصادر مشروعيتها، ولفعالية وسائل الرقابة التي تستعملها وتنظيم العلاقات بين الفاعلين فيها. ويردف متسائلا: لكن هل يعني ذلك أنَّ حدوث تبدل في الدولة يفيد المؤسَّسة التي تعرف بالدولة؟ ويجيب مبينا انه هناك في الحقيقة إشارات واضحة لتغير بنيوي عميق في مفهوم الدولة.
ففي الأدبيات السياسية المتعلقة بالدولة نجد علامات مختلفة للتحولات في مفهوم الحكم، خصوصاً في أوجه محددة من الدولة وعملها. ويظهر ذلك في حديث بعضهم عن ضروب شتى من التبدل، منها: تبدل في مفهوم حدود الدولة( إذ هناك كلام عن اللاإقليمية)، تبدل في مفهوم الأمَّة- لأنَّ اختلاط الثقافات الذي أحدثته العولمة طرح قضية الهوية الوطنية( والحديث أيضاً عن زوال الرابطة القومية التي لا تصيب البنية المؤسساتية للدولة وحسب.
بل العلاقات بين المواطنين والدولة)، تبدل في دور الدولة على صعيد تدخلها الاجتماعي والاقتصادي( فهناك من يعرض تطوراً يصيب دولة التدخل الديمقراطية الاجتماعية فيحولها دولة نيوليبرالية" دولة منافسة أو دولة اجتماعية ناشطة تؤثر في آليات المنافسة وحركة السوق" لتخلق نوعاً من عدالة على هذا الصعيد، ومنهم من يصفها بأنها أنظمة ما بعد الأمة- هذا النوع من الدول يعنى بالحفاظ على قدرة المنافسة في سياسة قطاع الإنتاج، وعلى إخضاع السياسة الاجتماعية لسياسة قطاع الإنتاج).
ويتطرق الراعي في رابع نقاط واوجه التبدل بشان مفهوم الدولة، عن التبدل في الديمقراطية، مبينا انه من الواضح أنَّ التحولات التي طرأت على بنية الدولة واتساع المسافة بين السلطة والسياسة، امور تؤثر في مبدأ الديمقراطي، وهو ما لم يعد كافياً البقاء على الشكلين التقليديين للديمقراطية، أي القبة البرلمانية والديمقراطية التمثيلية.
ولكن، وحسب ما يرى الأب الراعي، فلا بدَّ من تحول يفضي إلى مجموعة علاقات جديدة للدولة مع مواطنيها، إذ انها لا تستطيع أن تتعامل معهم على أساس أنهم خاضعون لسلطتها، وإنما باعتبارهم فاعلين أساسيين وشركاء في الحكم، وفي بعض الأحيان"زبائن"، فالدولة على صعيد الخدمات .
وفي وجه تطور قطاع الخدمات التي تقدمها المؤسَّسات الخاصة، عليها أن تطور نظاماً إدارياً يقوم على مبدأ أنَّ المواطن"زبون" لدى مؤسَّسة الدولة، فتتحول المؤسَّسات من إدارات لشؤون المواطنين إلى مراكز خدمات متطورة على صعيد تقديم النصح لهم، وتسهيل معاملاتهم.
هذا من دون إغفال مخاطر تترتب على هذا الشكل من العلاقة، وهي أن تتحول العلاقة بين المواطنين والدولة علاقة أحادية الجانب، إذ باستفادة المواطن من هذه التسهيلات في المعاملات يخرج من دائرة المشاركة في سياقات الديمقراطية التي تتكوَّن فيها التوجهات السياسية للدولة.
ويحدث هذا الأمر بتحول المواطن "زبونا نرجسيا"، ومن الخطر عندها أن تتوقف شراكته السياسية على حدود حق الاقتراع على أساس العروض المقدمة من الأشخاص والأحزاب، على أساس مشاركته في نقاش المشاريع السياسية. وهذا يحصل عادة عندما يتم التعاطي مع الدولة على أساس أنها مؤسَّسة خدمات أو مؤسَّسة مقــاولات سياسية.
إلا أنَّ دور المواطنين في تحول الدول لا يبرز صراحة وبقوَّة في إطار عمل الأفراد وحراكهم بل من خلال الأحزاب، حتى لو برز أشخاص لهم قدراتهم على صعيد الدولة، فالأحزاب لها فعالية كبيرة على الصعيد الداخلي في الدولة، بالوقوف في وجه انحرافات الدولة وتوجيه سياستها والتأثير فيها، من خلال التحركات السلمية واستعمال وسائل أخرى كالنقد الفكري وغير ذلك .
ويؤكد المؤلف، انه، ورغم ذلك، فإنَّ الدولة تبقى المؤسَّسة الوحيدة المعترف بها إطاراً جامعاً للمواطنين على قاعدة حكم ديمقراطي دستوري، منتقلا الى حقيقة جوهرية مفادها ان ن الوضع المتحول للدولة يفرض عليها التغيير في طرق عملها والتخلي عن الاحتكارية السياسية من جهة، والعملية التنفيذية من جهة ثانية. فهي لا تستطيع تهميش المجتمع المكوِّن لها أساساً.
وتحتاج إلى تطوير آليات الحوار المجتمعي للتوصل إلى شكل من التناغم والتواصل المجتمعي الناجع. وكي تنجح في ذلك، تحتاج الدولة إلى تغيير دائم على صعيد البنى المؤسساتية، وإلى تطوير أطر التفاعل والفاعلين فيها. لهذا تحتاج إلى تطوير قدرات التأقلم مع المتغيرات الدولية والداخلية والمناطقية، وتلك الحاصلة في القطاعات التي تقوم بها الميول الفردية والتعددية.
الكتاب: المجتمع والدولة دراسات
تاليف: باسم الراعي
الناشر: دار الفارابي- بيروت 2011
الصفحات: 183 صفحة
القطع: المتوسط
