يحلل كتاب "التعليم العالي في السعودية"، للباحث أحمد العيسى، طبيعة المشاكل التي أدت إلى تكبيل ارتقاء وتميز مستويات التعليم العالي في السعودية، موضحا ان آليات ومضامين النظم التي تسيره تتصف بالبيروقراطية، ومحكومة بذهنية ممعنة في البيروقراطية والاستئثار والتوجيه من قبل السلطة المركزية، وهي برأيه نظم، لم تسلك بعد الطريق نحو مسار تصحيحي، لأنها لا تريد أن تعترف بمكامن الإخفاق في ظل أصوات، لاتزال تكيل المديح لإنجازات وزارة التعليم العالي.
ويجد المؤلف ان النظام الحالي المعتمد لمجلس التعليم العالي، مضى عليه عقدان من الزمن. وقد أسهم في طمس هوية الجامعات وأضعف فرص التنوع والاختلاف فيها. كما أسهم في تهميش دور الفرد، وعجز عن تحديد هوية خاصة للجامعة، على الرغم من استحداث 26 "جامعة مستنسخة"، كما يقول المؤلف.
ويرى العيسى، أنه من الصعب تجاوز الواقع الراهن المأزوم، إذا لم يتحقق التطوير في مناخ من الحرية والاستقلالية.
وهما خاصتان ضروريتان لنجاح أي عمل تطويري تنموي يحوّل الجامعات إلى صروح متميزة في رسالتها ودورها التثقيفي والتحديثي، لتصبح قادرة على مواكبة المتغيرات المتسارعة والمستجدة في العالم. وقبل أن يدخل العيسى في طرح القضايا الجوهرية لعملية التحديث ومعالجتها، يعرض في الفصلين الأول والثاني بعض ملامح نظام التعليم العالي في المملكة العربية السعودية: تاريخه، مسيرته وطرق ممارسته بين عامي (1950-1980).
ويشير في هذا المجال، إلى بداية مشجعة تمثلت في تأسيس كلية الشريعة في مكه المكرمة، أشرفت على التعليم العام في المملكة واضطلعت بتخريج علماء مثقفين دينيّاً، سواء كانوا قضاة أو وعّاظاً أو مدرسين. وركزت في مناهجها على علوم الشريعة واللغة العربية بالإضافة إلى علم النفس والتربية. ويبين ان هذه الكلية أصبحت، في ما بعد، نواة جامعة جديدة تحمل اسم "جامعة أم القرى".
ويلفت المؤلف إلى ان أول مؤسسة تحمل اسم جامعة، أنشئت عام 1956 في الرياض، وعرفت باسم «جامعة الملك سعود»، واشتملت على العديد من الاختصاصات في حقول الأدب والصيدلة والزراعة والهندسة والطب.
وفي الفصل الثالث يقرأ الباحث في الأسباب التي أدت الى غياب هوية الجامعات السعودية، فالواقع التربوي لا أفق واضحا له، وكذلك آليات الإدارة والمحاسبة تفتقد الى وثيقة مكتوبة عن سياسة الدولة في ما يتعلق بالتعليم العالي، وذلك باستثناء وثيقة رسمية- تجاوزها الزمن- صدرت منذ أربعة عقود (1968)، وهي تحدد سياسة الدولة في النظام التعليمي العالي على كافة مستوياته وتحدد أهدافه.
في حين أن ما يصدر من توجهات سياسية وفكرية تترجمها الأنظمة واللوائح والقواعد التنفيذية، والتي صدرت، إما بمرسوم ملكي، أو بقرار من مجلس الوزراء، أو بقرار من مجلس التعليم العالي.
وبناءً على ذلك ــ حسب المؤلف ــ يكون من الصعب في الأحوال كافة نقد تلك السياسة الشفهية وكشفها أمام القارئ.
كما يؤكد العيسى أن اقرار هذه التوجيهات واللوائح، جاء من سلطة أعلى ولم ينبع من داخل كل جامعة وفقاً لظروفها وهويتها وخياراتها، وبالتالي فهي تمثل عائقاً أمام الجامعات في تحقيق الاستقلالية العلمية والأكاديمية.
ويفتح المؤلف، في الفصل الرابع من الكتاب، نافذة على واقع التعليم العالي في البلدان المتقدمة كأوروبا والولايات المتحدة ودول شرق آسيا، ليتبين معه، مدى تردي الواقع التربوي في عالمنا العربي، وحجم الهوة التي تجعل كل إمكانية في بلورة آفاق مفتوحة على رياح التطور والنقد العلمي والأكاديمي، أشبه بمتاهة.
ومن ثم يوضح أن التعليم العالي في أوروبا اسهم في بروز عصر النهضة، حيث انطلق علماء الطبيعة والفلسفة والأدب والفنون وعلماء الطب والفلك، إلى آفاق بعيدة في البحث والتجريب، ولاتزال جامعات أوروبا، الى اليوم، تعمل على تفعيل المحاولات في ميدان النقد والتطوير، المستقطب الأكبر للطلاّب الأجانب.
فضلاً عن تأسيسها عدة فروع لها، واعتماد مجموعة برامج متخصصة في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط. كما يمكن قراءة كثير من مشاريع الاستثمارات والبرامج التدريبية التي تقدمها تلك الجامعات على المستوى العالي.
ويعزو العيسى النجاح الذي حققه نظام التعليم الأميركي، الى قدرته على المحافظة على هامش كبير من الاستقلالية المادية والمعنوية والاستقلالية عن السلطة السياسية والاقتصادية في الدولة، وذلك على عكس ما هو حاصل في دول العالم الثالث، حيث يخضع الكثير من الجامعات لسيطرة الدولة المباشرة.
ويطلق المؤلف في الفصل الأخير، صرخة مدّوية، تثير حمية الغيارى ليسارعوا الى العمل لانقاذ الجامعة السعودية وانتشالها من ما يعيق نهوضها، ويدفع بها خطوات الى الامام.
وتتمثل بداية هذا الطريق، كما يرى العيسى، بضرورة انسحاب السلطة من ساحة المنازلة وان تترك هامشاً من الاستقلالية لأصحاب النوايا وأهل الاختصاص الذين يتوقون الى دور يلعبونه في بناء حضارة الإنسان، والإبحار نحو آفاق بعيدة (ثقافية وتنموية)، بعيداً عن البرامج الموجهة ومركزية السلطة والقرار.
الكتاب: التعليم العالي في السعودية.. رحلة البحث عن هوية
تأليف: أحمد العيسى
الناشر: دار الساقي بيروت 2011
الصفحات: 188 صفحة
القطع: الكبير
