عاد بيير جوكس، بعد أن تولّى مهام عدة مناصب حساسة، كوزير لداخلية فرنسا، ووزير للدفاع فيها، وأيضا رئاسة محكمة الحسابات وعضوية المجلس الدستوري الفرنسي الذي يمثل أعلى سلطة دستورية في البلاد، كي يلبس من جديد، ثوب المحاماة، التي هي مهنته الحقيقية، للدفاع عن الأطفال الجانحين. وأنجز من تجربته هذه، كتاباً بعنوان: "لا تسامح"، والترجمة الحرفية للعنوان: "أليس هناك حي سكني"؟ وهو ما يعني باللغة الشائعة في القانون: هل التسامح - مع الجانحين- هو في الدرجة صفر؟

ويتمثل موضوع الكتاب، فيما هو أبعد من العنوان، في طريقة تعامل القضاء الفرنسي مع الأطفال الجانحين. ويركز المؤلف - وزير الداخلية السابق - على أهمية الموضوع، كما تدل الجملة التي ينقلها عن الجنرال شارل ديغول: "هناك قليل من المشكلات لها القدر نفسه من الخطورة، مثل تلك التي تخص حماية الطفولة.

وخاصة فيما يتعلق بطريقة التعامل مع الأطفال الذين يتم تقديمهم إلى العدالة. إن فرنسا لا تمتلك ما يكفي من الأطفال الذين يتم تقديمهم إلى العدالة. إن فرنسا لا تمتلك ما يكفي من الأطفال بحيث إنها تملك حق إهمال ما يمكن أن يجعل منهم كائنات سليمة".

ويشير المؤلف الى أن هذه الجملة قالها الجنرال ديغول عام 1945، عندما كان رئيساً للحكومة المؤقتة، بعد زوال الاحتلال النازي لفرنسا، خلال الحرب العالمية الثانية. وجرى على أساس ذلك التوجّه، سنّ قوانين لحماية الطفولة، في إطار كيفية معاملة القاصرين أمام القضاء.

ولكن منذ عام 2002، أي بعد نصف قرن من التوجيه الديغولي، وفي ظل أغلبية برلمانية من الديغوليين، طبقا لما يفسره بيير جوكس، يتم اتخاذ قوانين ترمي إلى إنهاء تلك التي جرى اتخاذها عام 1945، بخصوص حماية الطفولة أمام القانون.

ولفت المؤلف إلى أنه بدا بوضوح، أن ذلك يرمي إلى انتهاج سبيل جديد يمكن بواسطته وضع القاصر في السجن لمدة أربعة أيام في بعض الحالات، بانتظار إحالته إلى المحكمة. ويقول المؤلف: " ذلك حين قلت لنفسي انني عندما أترك عملي في المجلس الدستوري، سأتفرّغ تماما لدراسة القوانين الخاصة بالقاصرين من الأطفال". ويؤكد جوكس أنه سيهتم حصريا، بمسألة الدفاع عن القاصرين، مؤكدا رفضه الدفاع عن أي قضايا أخرى.

وعن سبب تبنيه ذلك الخيار، يجيب جوكس: "أولا، كوني لست بحاجة الى تولي الدفاع في أي قضية لتأمين سبل العيش. وثانياً لأنني أقوم بذلك لأسباب وطنية، ومدنية. ذلك أن تهديم المنظومة القضائية الفرنسية لعام 1945، يشكل خطراً كبير على الديمقراطية".

وفي القسم الأول من الكتاب، أي ما يعادل نحو نصف صفحاته البالغ عددها 310 صفحات، يروي المؤلف تجربته كمحامي دفاع عن قاصرين في عشرات القضايا التي تخص مختلف أشكال العنف. ومن خلال هذه القضايا كلها يخرج بنتيجة تعبّر عنها جملته:

"لقد تحققت عموما من وجود تلازم مدهش أكثر فأكثر، بين التهميش في المدن والبؤس الاجتماعي وجنوح القاصرين". ويشجب المؤلف، في هذا السياق، ما يسميه: الهذيان القانوني، والذي تمثله تلك التشريعات القمعية أكثر فأكثر حيال الشباب القاصرين. ولا يتردد في أن يبدي استغرابه من واقع أنه لم يتنبّه إلى ذلك من قبل.

ويتابع : "لا أفهم كيف أن هذه المسألة لم يتم الكشف عنها من قبل اليسار، عندما كنت وزيرا للداخلية. وعندما نعلم أن 80 في المئة من القاصرين، الذين يتم تقديمهم للمحكمة، لا يعودون، بعد ذلك، الى الجنوح من جديد، وهذا يعني أن العدالة الخاصة بهم تبدو بوضوح عنصراً مهماً في تبنّي سياسة وقائية فاعلة".

ويقترب بيير جوكس من موقع من يعتبر أن السياسات التي تتبناها الحكومات الفرنسية المتعاقبة، منذ عقد من الزمن، لا تخلو من رفض شبيبة لم تعد بيضاء مثلما كانت في السابق. ونقرأ هنا: "إن الشبيبة من أبناء الهجرة يمثلون نسبة 80 في المئة من الذين أدافع عنهم. إن قسما من المجتمع الفرنسي لا يقبل هؤلاء الأطفال، على اعتبار أنهم أطفاله، وبالتالي لا يعترف بهم كأطفال".

وذلك فيما يعني تقريبا، أن هؤلاء أصبحوا نوعاً من أعداء الداخل. ويضيف جوكس: "هكذا تولد من جديد، وبشكل غامض، النزعة الاستعمارية القديمة، أو نوع من العنصرية ما بعد الاستعمارية. ومن المطلوب إذن، الرد بقوة على هذا العنف الاجتماعي الذي لن يقلّص بالتأكيد، من عدد الجانحين من الشباب الصغار، بل على العكس من ذلك". والمطلوب إذن، برأي المؤلف، محاربة مثل هذه النزعات.

وليس جلب المياه إلى طواحينها، كما يفعل بعض الساسة من اليمين واليسار. إن مثل هذه الدعوات لوقف العنف الاجتماعي هي التي يدافع عنها المؤلف في القسم الثاني من الكتاب. ويعتني بتأكيد ضرورة الوقوف ضد موجة القوانين الجديدة التي ازدهرت في عهد الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي. ويرى أن التصدّي لمثل هذا التوجه، يشكل نوعا من الوفاء لإرث المقاومة العظيم. ويشدد على ضرورة إعطاء الأولوية للتربية، بدلا من الذهاب بعيدا في اتخاذ إجراءات قمعية.

ويلفت المؤلف إلى أنه، وعندما كان مراهقا، عرف أن فرنسا كانت تعذّب وتقتل من يطالبون بحقوقهم في الجزائر ومدغشقر وغيرهما. ويرى اليوم في معاملة القاصرين من قبل المحاكم، نوعا من العودة الخطيرة إلى الوراء، إلى أحد أكثر المظاهر شؤماً من تاريخ فرنسا. ولا يتردد بالمقابل، في تأكيد أنه أحبّ دائماً، شعار العيش حرّا أو الموت، والذي تردده أغنية مجموعة غنائية (من السود). وتقول مقاطع هذه الأغنية ما مفاده: "ما مستقبل الأطفال المعذبين؟ وما المستقبل بين جدران أربعة؟".

 

 

 

 

 

الكتاب: لا تسامح؟

تأليف: بيير جوكس

الناشر: فايار باريس 2012

الصفحات: 310 صفحات

القطع: المتوسط

 

 

?Pas de quartier

Pierre Joxe

Fayard - Paris- 2012

310 p .