حتى "الشَعر" له تاريخه. هذا ما يؤكده الكتاب الموثق الذي يزيد عدد صفحاته على الـ 350 صفحة. ومؤلفوه هم مجموعة من الأكاديميين الجامعيين. ومما تتم الإشارة إليه في مقدمة هذا العمل الجماعي، هو أنه لا يلمّ إلا بجزء من تاريخ الشَعر.
المواضيع التي يتعرّض لها المساهمون في حديثهم عن "تاريخ الشعر"، تمتد من التاريخ إلى التحليل النفسي، مروراً بالسياسة والمعتقدات وعلم تطوّر المجتمعات الإنسانية، وصولاً إلى المسائل المتعلّقة بالصحة.
وتتوزع مواد هذا الكتاب بين ثلاثة أقسام رئيسية، تحمل بالتتالي عناوين: من شمشون إلى المرأة ذات المظهر الرجالي، من بابل إلى طريق السيدات: الشَعر والجسد والسياسة، من داروين إلى فرويد: الشَعر على مفترق العلوم الإنسانية.
ما يبيّنه المساهمون في الكتاب في تحليلاتهم، واقع وجود تنوع كبير لأشكال التكييف والتعامل مع الشعر، عبر الحقب التاريخية والحضارات والقارّات. ذلك أن الشعر كان ولا يزال - يحمل الكثير من الدلالات تاريخياً، على نمط معين من السلوك، أو كمؤشر على سياسة، أو يتضمّن دلالة اجتماعية بحسب تنوع المعتقدات والحضارات.وما يتفق حوله المساهمون هو أن اللحية، كانت تدل تقليدياً في جميع الحضارات، على القوة والشجاعة والسلطة، وبكلمة واحدة على "الرجولة".
وعرفت تلك الحقب القديمة، حال الملــوك والفلاسفـــة والقضاة والمحاربين وجمع الرجـــال الأحرار، واللحى تزيّن وجوههم. وكان العبيد وحدهم والمنبـــوذون من المجتمع، حليقي الذقون. وكان الهنود القدماء يفرضون على عتاة المجرمين عقوبة حلق لحاهم، بينما كان أهل جزيــرة كريت يفرضون العقوبة نفسها على اللصوص. أما الاسبارطيون أبناء اسبارطة - فقد كانوا يكرّسون تلك العقوبة للجنود الهاربين من جبهة القتال.
ويشير أحد المساهمين في الكتاب، إلى أن أعيان روما القديمة كانوا شديدي الاعتزاز بلحاهم، إلى درجة أنه عندما اجتاح الغاليون، سكان بلاد الغال (فرنسا حالياً)، رومـــا، فضّل السيناتور بابيريوس الموت على السكوت عن الإهانة التي وجهها أحد الفاتحين للحيته.وفي أغلب الأحيان كانت اللحية ذات دلالة على المكانة الاجتماعية، أو على النضج الفكري واكتساب الحكمة.
ولكن ذلك لم يمنع الرومــــان واليونانيين القدماء، من أن يلجأوا عندما تعرّضوا إلى غزو، ممن سموهم البرابرة القادمين من سهوب آسيا (بلحاهم الطويلة)، إلى حلق لحاهم لإظهار جانبهم الحضاري. وفي مصر القديمة كانت اللحية دليلاً على السلطة والقوة.
أما الشاربان فقد كانا في أغلب الأحيان بمثابة دليل على الرجولة أو على ممارسة الفن والعلم. وكان الفرنسيون في عهد الإمبراطور شارلمان، يحرصون على امتلاك شوارب كثيفة وطويلة. لكن تلك الموضة جرى استبدالها في القرن السادس عشر، بتبني تزيين الوجه بشاربين دقيقين ومعقوفين. واعتباراً من القرن الثامن عشر، عاد الاهتمام من جديد بتربية الشاربين وتهذيبهما بعناية فائقة، ورشهما بالعطور.
وتتم الإشارة إلى أن الفرنسيين وغالبية الأوروبيين، ثابروا حتى القرن العشرين، على استخــــدام مـــواد تثبيت شكل الشاربين، للحصول على أشكال مختلفة، مثل تلك الشاربين الشهيرين للفنان الكبير سلفادور دالي.
ولم يكن الثوريون بعيدين عن اعتماد مظهر خاص خارجي، مثل كارل ماركس ولحيته الكثّة الشهيرة. وفي الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، حرص الجنود الذين يتم توصيفهم في أوروبا بلحاهم الطويلة، على أن تظهر وجوههم من دون لحية أو شاربين،.
وكأنهم كانوا يريدون التخلّص من ذكريات السنوات الطويلة من إهمال كل ما يتعلق بمظهرهم. أما اليوم فإن امتلاك شاربين غريبي الشكل، من حيث المبالغة في الطول أو عدد اللفّات مثل سلفادور دالي- يبدو أمراً غير مألوف.
والشاربان الأكثر شيوعاً اليوم، هما على هيئة شاربي توم سيليك (الممثل الأميركي)، بطل مسلسل "ماغنوم". وبالوقت نفسه يتم الابتعاد اليوم عن كل دلالة رمزية، إلا في حالات الدلالة على الانتماء العقائدي. وإذا كانت مساهمات هذا الكتاب تقدّم تأريخاً دقيقاً للدلالات الاجتماعية المختلفة، وترسم المسار التطوري لهذا التاريخ، حيث انه قبل قرن من الزمن، كان حليق اللحية رجل كنيسة أو خادم، فإنها تقدّم بالمقابل بعض الأمثلة، عن قادة كبار في التاريخ حظروا على رعاياهم ترك لحاهم.
وهذا ما كان قد عرفه الروس في عهد بطرس الأكبر، كما عرفه الأتراك في ظل مصطفى كمال اتاتورك. فهذا وذاك اعتبرا أن الوجه المصقول رديف للتقدم. ولم يتردد بطرس الأكبر في فرض ضريبة على من تطول لحيته.
تؤكد قراءة الكتاب أن للشَعر فعلاً تاريخه الخاص والمستقل. وان له تاريخاً فريداً وغير معروف كثيراً. وهو تاريخ يعود بنا إلى السومريين والبابليين، وإلى فرنسا في ظل لويس الرابع عشر حيث كان الرجال الكبار يرتدون قلنسوة من الشعر المستعار، وكذلك الصين، حيث كان ينبغي في فترة ما، على جميع الرعايا الصينيين، تبنّي مظهر الشعر الطويل المحبوك في جدائل، وأيضاً تركيا الحديثة، حيث وجدت المواقف السياسية ترجمتها في شكل الشاربين.
الكتاب: تاريخ الشعر
تأليف: ماري فرانس اوزيبي جويل كورنيت وآخرون
الناشر: بيلان باريس 2011
الصفحات: 352 صفحة
القطع: المتوسط
Histoire du poil
Marie France Auzépy, Joel Cornette et Belin - Paris- 2011
352 p.
