يعتني كتاب "الإعلام الجديد والفوضى"، لمؤلفه الدكتور عبد الله الحيدري، بدراسة الإعلام العصري وفق منهج تحليل ومقاربات، يتنقل فيهما ضمن جوانب مختلفة في مناقشة الموضوع، إذ يوضح المؤلف أنّ إفرازات الإعلام الجديدة، على ما فيه من حفريّات تكنولوجيّة عميقة، بدأت تغيّر من القيم والسّلوك، خصوصا وانه لا يخلو من وجود حالة فوضى مزدوجة، أولا:

فوضى في السماء يجسّدها الحضور المتنامي لأقمار الاتصالات، والأقمار المتحرّكة وأقمار المراقبة والرّصد. وثانيا: فوضى على الأرض تلونها الفضائيات ويغذّي أطوارها الفضاء اللامتناهي لشبكة الإنترنت.

ويستدرك الباحث في هذه الخلاصات نقطة مهمة، وهي ان الأخطر من ذلك كلّه، فوضى المفاهيم والمصطلحات المتزاحمة مع فيضان من التدني اللّغوي، إذ ان ذلك أدّى إلى تراجع مقاييس الجودة والإبداع، ولا يستثني الدكتور الحيدري من كلّ هذا، فوضى المؤتمرات والبحوث العلميّة في العديد من المؤسّسات العربيّة، خاصة التعليمية والبحثيّة والتدريبيّة، إذ بات يحكمها الفاعلون في المجال السّياسي والإداري، ممّا حوّل رصيدها الفكري والبحثي إلى تراث لا يمكن استثماره معرفيّا، وأن لا يصنع مستقبلا علميّا، بقدر ما يمثّل استجابة لظروف موسميّة ومؤسّسيّة خصوصيّة.

ويبين مؤلف الكتاب أن الفوضى المقصودة في هذا المضمار، لا تعني مجرّد الاضطراب الطارىء على الظّاهرة الإعلاميّة والاتصاليّة، أو التشويش العارض الذي يترتب عليه إرباك بعض الوظائف في ديناميكيّة النظام، إذ يحدث أن يعتلّ النظام الإعلامي والاتصالي بسبب من الأسباب، أو تصيبه ضوضاء معيّنة تربك انتظامه.

إنّ الفوضى المقصودة في منظور الحيدري، هيّ التي تعرّض إلى ملاحظتها الرّياضي إدوارد لورانز، عندما كان يجري سلسلة من العمليات الحسابيّة المعقّدة، بقصد التكهّن بالتقلّبات المناخيّة، وكان أن اكتشف سلوكا فوضويّا لنظام لا خطّي، يحول دون حصر دقيق للتنبّؤات الجويّة.

ويستعير الدكتور الحيدري، في أبحاث كتابه، مفهوم الفوضى من إدوارد لورنز، ليوظّفه في مجال العلوم الإنسانيّة، ومن ثم، يفكّك الدكتور الحيدري منظومة الإعلام الجديد، ليضعها على محكّ الأحداث التي شهدتها بعض المواقع في المنطقة العربيّة. ويرى المؤلف أنّ ثورة تونس، كما هوّ حال الثورات التي تلتها، انبثقت من وعي الأفراد بواقعهم أوّلا، ثمّ تشكلت مفاصلها في فضاء الويب.

واشتدت بالتفاعل والتكرار والتداول، والتغلغل السريع للأفكار والمعلومات في الأوساط الاجتماعيّة المختلفة، على نحو يشبه إلى حدّ مّا، ما يُعرف في الرّياضيات بهندسة شجرة الاختيار، ولكن بشكل غير خطّي، ممّا يجعل تطوّر الأحداث أمرا في غاية التركيب والتعقيد، يصعب التكهّن بنتائجه والتحكّم حتى في مساره.

ويؤكد المؤلفان تمثلات ذلك صورة الفوضى ووجهها، إذ إن إنتاج المعلومات وتناقلها وتبادلها بما يسمّيه الحيدري "سرعة الإبحار الخاطفة"، ما إن يستمرّ في الزمن بالسّرعة تلك، حتى يأخذ حجمه منحى النمو المتزايد، بوتيرة غير قابلة للحساب تحمل في طبقاتها موجات من المعاني والمستويات البلاغية التي لا حصر لها، مفرزة، في الآن ذاته، المُحتمَل وغير المُحتمَل في نطاق ما يعرف بالحساسيّة للشروط الأولى. إنّ ذلك هو انعكاس لتأثير الفراشة في نظريّة الفوضى، التي بنى أسسها العديد من الرّياضيين والفيزيائيين، مثل هنري بوانكاري وإدوارد لورنز ونوربرت فينير .

فهذه إذن ظاهرة من الظواهر التــي يؤكّد الدكتور الحيدري، على أنّها تشبه تماما الظّواهر الطبيعيّة في الكون، المؤلّفــة من جمل لاخطيّة، وهي التي جعلت لورنز ويخلص الحيدري،الى ان تلك هي حالة الإعلام الجديد، فلا مجـــال فيها للضبط والسيطرة.

ولا مجال كذلك لليقين بالمعنى الرّياضي للكلمة، طالمــا أنّ القيمـــة الخاصة للمعلومات على مستوى الشبكـــة، تظـــلّ منخفضة. فكلّما ارتفعت هذه القيمة، انخفضت قيمة المعلومات وبلغت درجة اليقين، والعكس صحيح. فالإعلام الجديد بتضاريسه الحاليّة، يظلّ بعيدا عن السيطرة، ويبقى من الصّعب التنبّؤ بتغيّراته واتجاهاته، ولا يمكن إلا أن يشكّل نظاما ديناميّا مركّبا تسكنه الفوضى .

 

 

 

 

 

 

الكتاب: الإعلام الجديد

تأليف: د.عبدالله الحيدري

الناشر: دار سحر للنشر تونس 2011

الصفحات: 220 صفحة

القطع: المتوسط