هناك الملايين، عشرات الملايين، بل مئات وربما آلافها، يعيشون اليوم حالة من الهشاشة في شتى أنحاء العالم. وفي فرنسا وحدها، هذه البلاد الغنية، التي تجد تصنيفها ما بين المرتبة الخامسة والسادسة على المستوى الاقتصادي العالمي، يوجد ما يزيد على 8 ملايين نسمة، يقل دخلهم الشهري عن 1000 يورو شهرياً، أي ممن يمكن تصنيفهم بـ"الفقراء".
مثل هذا الواقع الاقتصادي يجد ما يوازيه من الأحاسيس لدى البشر. وما تتم ترجمته بالقلق من الاستبعاد، والخوف من السقوط، والخشية المستمرة من التهميش، إلى آخر السلسلة من التوصيفات التي تذهب في اتجاه الإحساس بالهشاشة نفسه. وهذه الهشاشة هي بالتحديد موضوع كتاب غيّوم لوبلان، أستاذ الفلسفة في جامعة بوردو الثالثة. عنوان الكتاب هو: "ماذا نفعل بهشاشتنا"؟
في البداية يقدّم المؤلف على مدى العديد من الصفحات، توصيفاً لأحاسيس الهشاشة التي تتغلغل في حياة البشر اليوم، وفي عموم المجتمعات الموصوفة بالمتقدمة، بقوة لا سابق لها. ثم يشرح على مدى الأقسام الثلاثة من الكتاب، موضوعات ومحاور: حق العيش، باسم الآخرين، المسألة الاجتماعية الجديدة اليوم. إن المؤلف يفضّل استخدام تعبير هشاشة بدلاً عن الفقر. وإذا كان يرى في الهشاشة إحدى سمات الشخصية الإنسانية، وليس هناك إنسان بمنجاة منها بالمعنى العريض الواسع، فإنه يؤكد وجود درجات تصل في
حالات البؤس إلى الإحساس بالخوف، في إطار الوسط الاجتماعي المحيط.
ويناقش المؤلف في هذا السياق، ما يسميه بالسياسات الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية، كأحد مظاهرها الرئيسية. وما يتم التأكيد عليه هو رفض ما يسميه المؤلف بنمط الحياة الجاهزة، على أساس أطر محددة. والمطلوب، كما يرى، هو الوصول إلى نوع من الحياة المشتركة، وهذا يتطلب بالضرورة جعل هدف تقليص الفقر، يحظى بالأولوية، في السياسات الحكومية الوطنية أو الأوروبية، على صعيد مجمل بلدان الاتحاد الأوروبي.
لكن المؤلف يرى أن الهشاشة خلقت نوعاً من الدينامية، التي جعلت من المعنيين بها قوة حقيقية في مجتمعاتهم. إن المؤلف يعود بأشكال مختلفة إلى نقاش الأسئلة المتعلقة بالاستبعاد الاجتماعي والهشاشة، وكل مرادفاتها والتعابير التي تدلّ عليها. ولكنه يؤكد أهمية تجنّب الكلمات التي يمكنها أن تثير مشاعر أولئك الذين دفعهم المجتمع، الذي يعيشون فيه، إلى الهامش، وذلك خارج دائرة المعايير المسيطرة.
ويرى غيّوم لوبلان، أن واقع الأزمة التي تعيشها المجتمعات الأوروبية، والغربية عامة، يدفع نحو الأخذ بخطاب هادئ، يؤمن السلام الاجتماعي، ولا يصبّ الزيت على النار. هذا إلى جانب الإعلان الصريح عن ضرورة أن يكون هناك من يريد أن يجعل نفسه، كصوت من لا صوت لهم.
وبالاعتماد على التجربة المعاشة في المجتمع الفرنسي، كأحد أنماط المجتمعات الاستهلاكية الغربية، يشرح المؤلف أن واقع التهميش الذي تعيشه شرائح اجتماعية تتسع أكثر فأكثر، وما يترتب على ذلك من إحساس بالقلق، لا يعود فقط إلى تعاظم ظاهرة البطالة، ولكن أيضاً إلى السياسات الرسمية للعمل، مثل تبنّي العقود لفترة محددة أو العمل بعدد ساعات قليلة، أو غير ذلك من الآليات التي تدفع منطقياً، نحو التهميش.
وتتم الإشارة في تحليلات هذا الكتاب على ذلك القدر من نقص الاحترام المتبادل، بين المكونات الاجتماعية، وبين العاطل عن العمل ومن لا يعاني من البطالة. وهذه الأمور كلها تؤدي بالنتيجة إلى تضاؤل فكرة المساواة نفسها، في مجتمعات تقول إنها جعلت منها أحد الأسس التي تقوم عليها. ويكتب المؤلف: "إن التقليل من قيمة الذين يعانون من الهشاشة الاجتماعية، يؤدي بالمقابل، إلى التقليل من قيمة المجتمع الذي يدفع نحو الهشاشة أكثر فأكثر".
وفيما هو أبعد من القلق الإنساني الذي تولّده الهشاشة الاجتماعية، يهتز لدى المعني بها الإحساس بالانتماء المشترك. وهذا في الوقت الذي يتم التأكيد فيه، أن الدفع نحو حياة هامشية، لا يشكل قدراً لهؤلاء أو أولئك، ولكنه بالأحرى نتيجة بناء اقتصادي واجتماعي وسياسي، انتهجته المجتمعات المعنية، كسبيل في تحديد آليات عملها.
ويؤكد المؤلف ان تحميل الذين يعانون من الهشاشة مسؤولية هشاشتهم، لا يشكل سوى محاولة لطمس الظلم الذي يعانون منه. إنه الظلم الذي يتم التعبير عنه بالدفع نحو العيش كإنسان، من دون قيمة ومن دون ثمن.
الأكثر أهمية في مواجهة الهشاشة الاجتماعية وما يترتب عليها، يجده المؤلف في استخدام الخطاب الصحيح والانتهاء من هذا العالم الذي لا يستطيع دمج البعض فيه، سوى عبر استبعاد الآخرين، كما يكتب. ويؤكد أنه لا يوجد في جهة المهمّشين، وفي الجهة الأخرى المندمجين، ولكن يوجد بالأحرى، مجتمع يشكّل هؤلاء وأولئك: "وجهي ميداليته". ان الهشاشة إحساس مشترك للجميع اليوم في المجتمعات الاستهلاكية الغربية، وحتى أولئك الذين تبدو حياتهم محميّة.
الكتاب: ماذا نفعل بهشاشتنا؟
تأليف: غيّوم لوبلان
الناشر: بايار باريس 2011
الصفحات: 213 صفحة
القطع: المتوسط
Que faire de notre vulnérabilité
Guillaume Le Blanc
Bayard - Paris- 2011
213 p.
