بعد أن أمضى الصحافي الفرنسي تييري كروزية، سنوات طويلة من حياته، في البحث والتقصّي في عالم الشبكة العنكبوتية والكتابة عنه، يقدّم اليوم كتابا تحت عنوان «الانفكاك عن الانترنت». وهو يشرح على مدى صفحاته كيفية العيش من جديد دون إنترنت، «بعد تناول جرعات زائدة منه». كما جاء في العنوان الفرعي.
يبدأ المؤلف بشرح السياق الذي «اكتشف» فيه عالم الإنترنت في عام 1995م. لكنه يحدد القول:"إنني أهتم بالسياسة والأدب والتكنولوجيا والفلسفة". مع ذلك أصبح منذ ذلك التاريخ أحد المنتمين إلى عالم مستخدمي، أو بدقة أكبر أحد "مدمني" الانترنت، والبالغ عددهم في فرنسا حوالي 38 مليوناً.
كان تييري كروزيه أحد الملايين من مدمني الانترنت. وكانت زوجته، كما يعلن، لا تتردد في السخرية منه عندما كان يزعم أنه يريد الدخول إلى مكتبه لإنجاز عمل. ولم يكن أطفاله يتحملون منظره وهو يقلّب بيديه حاسوبه المحمول. ولقد كان لا يكل ولا يمل من تفحّص قائمة "الإيميلات" الجديدة التي تلقاها والتعرّف على عددها يوما بيوم.
وأصبح باختصار ،"مدمنا للانترنت". وبكل الحالات لم يكن يتردد في إعلان قناعاته بأن شبكة الانترنت ستغيّر العالم. ولكن ذلك كلّه لم يمنعه من الإدراك بعد ما يزيد عن 15 سنة من الزمن أنه لم يغيّر العالم فحسب، بل لم يساعده في أن يعيش سعيدا.
وبالتالي لا بدّ من الانطلاق من نقطة الصفر من جديد. وذلك من أجل إنقاذ حياته الزوجية وإنقاذ أسرته وإنقاذ نفسه، قبل الجميع. وبالتالي بدأ بـ أخذ مسافة بعد عن الانترنت، وصولا إلى الانفكاك منها.
ويؤكّد المؤلف منذ البداية أيضا، أن الغالبية العظمى من هؤلاء الذين يعيشون نفس حالته آنذاك لا يستطيعون الفكاك من إدمانهم. وإنهم يمارسون اللعب على الشاشة، منتقلين من مشاهدة ما يدغدغ غرائزهم إلى تبادل الرسائل الإلكترونية، مرورا بأشياء أخرى كثيرة. وهؤلاء يعتبرهم المؤلف من المدمنين الجدد.
والذين تنبغي معالجتهم، كغيرهم من المدمنين على الكحول أو التبغ أو غير ذلك من الممارسات الضارّة، والتي ليس من السهل التخلّص منها. ويعترف تييري كروزيه أنه عندما اكتشف عالم الإنترنت وغرق فيه، كان على يقين تام بأنه سيكون سبيل الخلاص ومصدر الحلول لجميع الشرور التي يعاني منها المجتمع.
وعلى خلفية ذلك الاعتقاد حاول أن يقدّم عددا من الأطروحات النظرية التي تدعم مشروع التغيير الاجتماعي. ولم تكن أقل الأطروحات انتشارا، تلك القائلة انه بفضل شبكة الانترنت سيتم الربط بين جميع البشر، فيما يتجاوز كل الحدود وكل الثقافات.
لقد جرى النظر في أحيان كثيرة الى ولوج عالم الانترنت، وكأنه نوع من التسامي إلى عالم اعتبره أفلاطـــون فـــوق الواقع العادي الذي يعيشه الناس في حياتهم اليومية، كما يشرح المؤلف. وعبر التواصل والتدفّيق الناجم عن التداخل عبر الربط بالشبكة الإلكترونية.
يتولّى مستخدموها الإحساس أنهم يتبادلون المحبّة والمشاعر والآمال والغضب. وأنهم يتقاسمون الإعجاب والدهشة أمام عمل فني أو مشهد طبيعي أو فكرة. وكأن لسان حالهم يقول:" إننا نفكّر معا، ونبدع معا، ونضحك معا".
لكن كل الأفكار والأحلام الجميلة التي عاشها المؤلف لم تنته به إلى عالم جديد، ولكن إلى المستشفى، كما يعترف. ولم يكن السبب سوى جرعة زائدة من استخدام شبكة الانترنت، وحيث وجد نفسه أمام حالة شك مؤلم بالذات والقناعة بضرورة الانفكاك عن الشبكة العنكبوتية. ونجح بعد عناء طويل في ذلك، وكانت النتيجة أيضاً تحرير هذا الكتاب.
ويشرح المؤلف أن المنتديات الطبية زاخرة بالشهادات عن إدمان الانترنت. ولكن مثل جميع الحالات يغدو الإنترنت الممارسة الوحيدة في أوقات الفراغ. واستهلاك أيّة معلومات معروضة، مثل المدمن على الكحول، والذي يحتسي منه كل ما يقع تحت يديه. وفي النهاية "يصبح مستخدم الإنترنت مسكونا بإجابات وردود أفعال الأصدقاء على الـ"فيس بوك"، وغيره من مجالات التواصل، كما يكتب المؤلف.
وفي المحصّلة لا يتردد تييري كروزيه، في وصف نفسه، أنه كان مصابا بنوع من "التسمم" الحقيقي. ويروي أنه دخل أحد المستشفى ذات يوم لمعالجة حالة "القلق النفسي" التي كان يعاني منهت. ولكن كان همّه الأكبر هو التوصّل إلى طريقة ـ نجح في ذلك ـ تتيح له إمكانية تصفّح "إيميلاته" في سريره في غرفة المستشفى. ويشير الى أن الأخصائي النفسي الذي درس حالته آنذاك، أخبره بأنه غير مصاب بـ "الإدمان" الإلكتروني.
الكتاب: الانفكاك عن الانترنت
تأليف: تييري كروزيه
الناشر: فايار- باريس- 2012
الصفحات: 224 صفحة
القطع: المتوسط
Jai debranché
HThierry Crouzet
Fayard - Paris- 2012
224 .p
