الترجمة والعرب.. حركة التراجـع

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

على قدر اهتمام العرب بلغة القرآن الكريم ، اعتنوا بحركة الترجمة من وإلى لغتهم، حتى إن الترجمة في عصر المسلمين الأوائل، مثل عصر المأمون، شهدت ازدهارًا كبيرًا جعل العرب آنذاك مركزًا للإشعاع المعرفي، بينما يتصف وضع الترجمة في العالم العربي حاليًا بالفوضى والعشوائية.

وبعد أن كان ينقل عنا الغرب آخر ما توصل إليه العلماء العرب من تطوّر في شتى مجالات المعرفة، أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى معارفهم لنلحق بركب التقدّم الذي تأخرنا عنه كثيرًا. فما السبيل إلى إنهاء حقبة التراجع، وإعادة حركة الازدهار مجددًا برؤى جديدة.

 

المترجمة والباحثة د.سهير المصادفة، بدأت حديثها متسائلة: من منّا لم يستمتع بقراءة قصص «كليلة ودمنة»؟ ذلك الكتاب الذي تضمن حكايات كتبها الحكيم «بيدبا» للملك الظالم «دبشيلم» لإسداء النصيحة له على ألسنة الحيوانات، أملاً في رجوعه إلى الحق وعدوله عن الظلم.

وقد جمع الكتاب صنوف الحكمة في قصص متنوعة ليوصل المعنى بطريقة غير مباشرة، والحقيقة أنه لولا الترجمة ما وصلت إلينا هذه الكتب العظيمة، لكن لا شك في أن الهوّة بين الغرب والعرب عادت منذ قرون إلى الاتساع.

 

عمود النهضة

تضيف «المصادفة»: لقد بات من المعروف مدى أهمية الترجمة في مد جسور التواصل مع الآخر، وتكاد تكون ترجمة الأدب تحديدًا هي الجسر الأوحد لعبور شعب إلى شعب آخر بشخصيته وعاداته وتقاليده وتاريخه دون رقابة الحكومات والساسة والأيديولوجيات المختلفة.

بالإضافة إلى أهمية الترجمة كعمود رئيسي من أعمدة إقامة أي نهضة عن طريق التنمية الشاملة للعلوم كافة، وأيضًا من نافلة القول الإشارة إلى الارتباط الوثيق بين نهضة الترجمة في أشد عصور العرب ازدهارًا ووصول الحضارة العربية إلى ذروة تقدّمها، كذلك الارتباط الوثيق بين نهضة الترجمة في العصر الحديث على يد والي مصر الأسبق محمد علي باشا وبناء مصر الحديثة وازدهار شتى العلوم الذي أدى إلى مزيد من التقدّم.

وعن طمس الأنظمة السابقة لحركة الترجمة، تضيف: «كان أمام النظام السابق كل آليات النهوض بعملية الترجمة، لكنه قام بتعطيلها واستبعاد المهمومين بتنفيذها واكتفى بإقامة كرنفالات عن عملية الترجمة المتعثرة في العالم العربي، لكن استطاعت مصر بجهود مترجميها المنفردة ودأبهم ومثابرتهم أن تحقق معدلات أفضل في العالم العربي كمًا وكيفًا».

وتابعت: لقد كانت ثمة تساؤلات غبية ومعطلة ودائمة من أجهزة الدولة المختلفة وإداراتها حول ضرورة تحمّل ميزانيتها لأجور المترجمين؟ وحتى في حال وجود أموال تُضخ عادة في عملية الترجمة لأسباب سياسية، كانت تُخصص للمؤتمرات والمحافل السنوية المتعددة والتي لم تتعدَ توصياتها من قِبل المترجمين والباحثين سوى توصية واحدة ألا وهي: «أنه علينا أن نتجاوز كبوتنا المريعة في معدلات الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية».

وعن وجود استراتيجية للنهوض بحركة الترجمة، تقول: لكي تنهض عملية الترجمة يجب بداية عمل ببلوجرافيا وحصر شامل لإنجازات العالم العربي منذ أوائل القرن العشرين وحتى الآن؛ بهدف ترتيب المكتبة العربية وإعادة تنقيح وطبع الكتب التي نفدت وشراء حقوق الملكية الفكرية لمَن يستحق من الرواد، فإذا كان العالم العربي يعجز حتى الآن عن تكوين بنك معلومات للترجمة، فكيف له أن ينطلق نحو آفاقٍ أرحب ونحو معرفةٍ إحصائيةٍ دقيقة بما تفتقده مكتبته من أعمدة المكتبة الغربية.

وإذا كان العالم العربي يفتقر إلى وضع ونشر خطط محددة لنشر كنوز وأعمدة المكتبة الغربية لتكون قدوة على درب التنسيق الذي تفتقر إليه المؤسسات المعنية بالترجمة والذي أدى إلى مزيد من العشوائية وتبديد جهود المترجمين الذين هم في الأصل قلة قليلة في العالم العربي، فكيف ستنتظم للمترجمين آليات عملية الترجمة؟ هذا العمل المؤسسي الضخم اقترحته منذ سنواتٍ مثلاً لتقوم به الهيئة المصرية العامة للكتاب وتم تعطيله كالعادة.

وتردف: يجب تحديد أهداف واضحة وتوجهات محددة الملامح يتم الاتفاق عليها، وأقترح أن يكون الهدف الأول والمحوري هو الوصول إلى معدل ترجمة أكبر في العالم العربي يساهم مساهمة ملحوظة وفارقة في رفع معدل الترجمة العربي الذي ما زال يعاني معدلاً مخجلاً في الترجمة أمام دول صغيرة في المنطقة مثل إسرائيل، وسيؤدي هذا بالضرورة إلى سد ثغرات معرفية كثيرة في المكتبة العربية في جميع المجالات، وسيتطلب ذلك تحقيق بعض الأهداف الفرعية مثل تكوين شبكة علاقات دبلوماسية تخص مراكز الترجمة مع المؤسسات الدولية التي يمكنها دعم عمليات الترجمة ماديًا ومعنويًا .

وذلك من خلال معارضها الدولية المختلفة في الخارج، وأيضًا سيكون من أهداف عملية النهضة بالترجمة مساعدة ظهور مترجمين شبان أكفاء جدد، ولن يكلفها هذا سوى توفير دعم كبار المترجمين لمساندتهم ومراجعة أعمالهم، فنظرة واحدة إلى مستقبل الترجمة تدعو إلى الفزع، وخاصة إذا علمنا أن كل خريجي كليات الألسن واللغات المختلفة يهربون إلى العمل في مجال السياحة، مفضلين دخلها المضمون أو لأنهم لم يجدوا مَن يأخذ بأيديهم من مُترجمينا الكبار.

 

معايير صارمة

أما المثقف والمترجم المصري البارز طلعت الشايب، فيقول: لقد حدث تغير طفيف في تطوّر حركة الترجمة للأفضل، لكنه غير مؤثر في حركة الترجمة، إذا قورنت عدد الكتب المترجمة فعليًّا بما ينبغي ترجمته, فمازالت الترجمة بعيدة كل البعد عن أن تكون مشروعًا للتنمية.

فلا بد للترجمة أن تكون برعاية الحكومات ووزارات الثقافة بها، وأن يتم فيها حسن اختيار للكتب دون هدف الربح، وأن تسهم هذه الكتب في سد النقص، فنحن نحتاج إلى مشروع تنمية ثقافية تدعم الثقافة مثلما تدعم الخبز والمواصلات فمن السهل أن نستورد أجهزة حديثة لكن ليس من السهل أن نستورد عقولاً.

ويضيف: يجب أيضًا وضع معايير صارمة ومحددة في اختيار الكتب وترجمتها، مثل أن تتم الترجمة عن اللغات الأصلية، وأن تتعدد اللغات المُترجم عنها وخاصة أنه بعمل مسح أولى في مراكز الترجمة نجد أن عدد هذه اللغات لم يتجاوز العشرين لغة بعد مرور ما يُقارب القرن من مزاولة نشر الأعمال المترجمة إلى العربية، كذلك ينبغي الالتزام بالحفاظ على التوازن بين المعارف المختلفة والعلوم لسد النقص الشديد في المكتبة العربية، والتوجّه إلى ترجمة أعمدة المكتبات الأجنبية في شتى الفنون والعلوم، كذلك الموسوعات التي لم تُترجم بعد.

ويستطرد: لابد أن تتوجّه مراكز الترجمة نحو التخصص؛ لكي تكون لكل سلسلة شخصيتها المستقلة، فمثلاً استطاعت «سلسلة الجوائز» التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب أن تحظى بطابع متميز، والآن يعرف القارئ العربي أنه سيقرأ فيها عملاً أدبيًا مُتفقًا على جودته من لجان تحكيم لجوائز عالمية راسخة في العالم كله ابتداء من جائزة نوبل وحتى أصغر جائزة محلية في بلدانها مثل جائزة «كين» الأفريقية.

لكن السمة المميزة لهذه الجوائز أنها حققت سمعة طيبة على مدى عقود من الزمان، إن وجود شخصية لكل سلسلة سيؤدي بالضرورة إلى المزيد من التنسيق والارتقاء بمعدل الترجمة.

 

معوقات

ويؤكد الباحث والمترجم سمير محفوظ، أن ارتفاع ثمن الكتب المترجمة أحد المعوقات التي تعرقل نهضة الترجمة العربية، بالإضافة إلى تراجع القراءة في العالم العربي بشكل عام؛ بسبب الوسائل المرئية التي أصبحت تجذب الجماهير أكثر من المقروءة، فضلاً على ضعف الميزانيات التي تخصصها الحكومات لحركة الترجمة فالأوضاع الاقتصادية دفعت عدد من الدول العربية إلى أن لا تجعل الأولوية في ميزانيتها للترجمة.

ويكشف محفوظ عن عقبة أخرى وهي حقوق النشر الخاصة بالمؤلف الأصلي التي تكلّف القائمين على الترجمة الكثير، فوفقًا للقانون المصري على سبيل المثال يجوز التنازل عن حقوق نشر المؤلف بعد وفاته بخمسين عامًا، وهذا ما يعد جريمة في القانون الأمريكي الذي يحفظ للمؤلف حقوقه في النشر حتى بعد وفاته بمئة عام.

ويطالب محفوظ بأن تتعدد المراكز المسؤولة عن الترجمة، مؤكدًا أن دولة مثل مصر لا ينبغي أن تكتفي بالمركز القومي للترجمة، بل لابد من توفير دور ومراكز عديدة لنشر الكتب بأسعار في متناول أيدي الجميع، وهكذا الحال في بقية الدول العربية ولاسيّما التي تملك خبرات في مجال النشر والترجمة مثل لبنان ودولة الكويت.

 

 

غياب

 

توضح المترجمة سهير المصادفة أنه منذ حركة نهضة الترجمة الأولى التي انتبه لها «محمد علي» لم تشهد البلاد استراتيجيات ثقافية بشكلٍ عامٍ واستراتيجية للنهوض بالترجمة بشكلٍ خاصٍ، أرى أنه من دون وضع استراتيجية محددة تأخذ بعين الاعتبار كل ما سبق، مع متابعة التنفيذ.

وتحديد المراحل، سنظل نضيع جهدنا في مؤتمرات وحوارات ومحافل لا تُسفر عن نتائج حقيقية ملموسة في ازدياد معدل الترجمة والارتقاء بها بشكل عام كمًا وكيفًا، فالعالم العربي لا يحتاج إلى بعث لغته التي حماها القرآن الكريم، لكن عليه العمل للنهوض بهذه اللغة عبر آليات وضعت منذ فجر الحضارة الإسلامية.

Email