الأدوار التي اضطرت التشكيلية الاسبانية، ليتا كابيلوت، إلى أن تلعبها في حياتها، بوصفها غجرية وفقيرة وفنانة، لم تهيئ نصراً سهلاً لتلك المرأة ذات الشعر المجدول، حالك السواد، والتي تمتلك طبعاً حاداً وذهناً متقداً.. إلا أنها أبت أن تتراجع، فوقفت بثبات، وقررت، مع ذلك، السير وراء حلمها، ليصبح الماضي حاضراً في أعمالها، والتي تذكر في بعض جوانبها، بإبداعات لوسين و فرويد وفرانسيس بيكون، خصوصاً وأنها نماذج لوحات تعكس مدى ولعها بعكس الحالات الإنسانية وتجلياتها المتنوعة.
لم تغب أهمية الإمارات، ودبي بشكل خاص، عن مخيلة وتفكير ليتا كابيلوت، لما لها من دور حيوي مؤثر، حالياً، في مختلف مجالات الإبداع، وبذا اختارت أن تعرض في دبي حيث كانت لها محطة حافلة فيها، أخيراً، قدمت خلالها، أكثر من ثلاثين لوحة، في معرض بعنوان "ذكريات مغلفة بورق الذهب" في غاليري أوبرا.
وتبدت في تلك الأعمال المعروضة، وجوه نساء محجبات، بينت ليتا، انها لا ترمي فقط، من وراء هذا النمط الإبداعي، المتسم بطابع المغامرة التشكيلية، فقط إلى تناول الحجاب بوصفه غطاءً للرأس أو الوجه، أو كليهما معاً، بل أكثر من ذلك، لتصل إلى القدرة إلى تقليب حالات إنسانية مولودة من تجربة صاحبة كل وجه من تلك الوجوه، والتي يظهر من بينها وجه توكل كرمان أو سوزان تميم.
أولوية
تقول ليتا في حوارها مع "مسارات"، إن اختيار تلك الوجوه، شكل أولوية بالنسبة لها، خاصة وأن المسألة تتعلق بالعثور على نساء لهن شخصية مميزة، ولديهن تاريخ وقصة، وليس العثور على نساء جميلات، لأن الجمال تولده القصص التي كانت النساء قد عاشتها، وهؤلاء النساء هن أمهات وزوجات مستقبليات وأخوات وحفيدات، هن نسوة يرمزن إلى عظمة المرأة. كما توضح الفنانة الاسبانية أنها اختارت نماذجها بعناية فائقة، إذ يمثل أحدها، الجمال، وآخر يعكس الشخصية القوية، وغيره التسامح.
وتضيف ليتا: ".. أحاول في نماذج لوحاتي مقاربة رؤيتي وتصوراتي حول قوة شخصية المرأة الإماراتية، إذ لديها طبع قوي جداً، تحمله في جيناتها، وكذا لديها عاطفة جياشة وما يكفي من التسامح للعناية بالآخرين وبعائلتها، وأيضاً وضع نفسها تحت تصرف أفراد عائلتها، وتكريس نفسها لهم، وهذا ما ينطبق علي، نفسه، بصفتي غجرية».
لم تتبع ليتا في معرضها الأخير تقنية جديدة في تنفيذ لوحاتها، بل اعتمدت على التقنيات ذاتها التي تستخدمها دوماً، والتي سمحت لها بهذه الانطلاقة نحو المفهوم الإنساني للفن، لكن التجديد أو الجديد في هذا المعرض، الاشتغال على القماش أو مجموعة الأقمشة التي تعتبر بمثابة حافظات للذاكرة.
ومن هنا يأتي، كما تشير، اسم المعرض "ذكريات مغلفة بورق من ذهب"، حيث الذكريات هي التقاليد والذهب هو "كنزنا". وتضيف: "عندما لا تكون عاداتنا وتقاليدنا مغلفة، وعندما لا تكون محمية نفقد الهوية، وبالتالي فإني أردت أخذ استعارة الأقمشة والمناديل والأحجبة التي يضعها النساء، من أجل عمل الموازنة بين الرسالة والتقاليد، حيث يقبع الكنز، فإذا فقدنا ذلك، فقدنا قيمنا، وفقدنا الهوية التي نحن عليها والتي تشكلنا، وكذا فقدنا الوجهة التي أتينا منها، ومن كانوا أجدادنا، وهو الأمر الذي لا نستطيع تجاهله».
خارج حدود الإبداع
معروف عن ليتا كابيلوت، وبالإضافة إلى كونها فنانة تشكيلية، انها شاعرة أيضاً، بحيث تكاد تنعدم الفواصل في تجربتها الإبداعية، وتذوب الحدود بين هذين الجنسين الإبداعيين لديها، ولكن ما لم نك نعرفه، هو أن ليتا راقصة رائعة أيضاً، فهي ترقص في أي وقت، وكذا عندما تقوم بأي عمل..
ترقص أثناء الرسم مثلاً.. وقد اقترحت على مدير أعمالها البلجيكي آلان، أن يعد فيلماً تسجيلياً عنها، يظهرها: ليتا الرسامة والشاعرة والراقصة، في آن واحد، وبالمقابل أكد آلان نفسه، أنه فعل ذلك، بحق، فصورها بالفيديو وهي ترقص أثناء الرسم، والمسألة لا تحتاج إلا لبعض التفاصيل التقنية، حتى يظهر فيلم عنها.
ولكنها، كما يقول، كانت مصرة على أن ترفض ذلك حتى مجيئها إلى دبي، على أقل تقدير، حيث تلقيت منها مكالمة في اليوم الذي تلا افتتاح معرضها في غاليري "أوبرا" وسط دبي، تطلب مني فيها، تأمين مصور فيديو لإعداد فيلم قصير يوثق جولتها في معرضها الأخير، ويظهرها وهي تتفرج على لوحاتها المعروضة، وهي مفعمة بالفرح. وهي تعلق على هذا بالقول، إن الفن وسيلة والموهبة كذلك، الفن هو الفن، وإذا كان لديك ميل لممارسته بهذه الطريقة أو بتلك الأداة أو بجسدك أو بقلم رصاص، فذلك ليس مهماً، المهم هو الفن.
كل من يطالع وجه ليتا، يدرك بلا عناء أنها غجرية، فملامح ذلك الوجه تكاد تنطق لتؤكد هويتها الغجرية، التي تعتز بها رغم أنها جلبت لها الكثير من المعاناة، مادياً ومعنوياً، لكنها تقول ان ذلك لا يؤثر عليها بأي طريقة من الطرق، لأن الناس الذين ينظرون إلى هذا الجانب، بشكل سلبي، مساكين، ذلك بفعل جهلهم وبسبب افتقارهم للثقافة.
شهود الروح
تتمتع أعمال ليتا بشخصية واضحة المعالم، لكننا لم نكن نعلم حتى لقائنا بها، إذا ما كانت تلك الشخصية تتنوع أم لا، خاصة وأن أعمالها تختزن الكثير من الألم والوحشية، على غرار اللوحات التي رسمتها للفنانة المكسيكية الراحلة فريدا كالو أو كوكو شانيل، وذلك لأن الحياة متوحشة ومؤلمة، كما تقول، وهي تدعونا إلى تخيل بشاعة الحادث الذي تعرضت له فريدا كالو.
وتقول: "كم هي قاسية الحياة عندما تكسر ظهر شخص ما، الحياة وحشية، لكنها جميلة أيضاً، الحياة خالدة وهائجة ورقيقة، ولذلك يتعين على الفنان أن يكون صحافي الروح الذي لا يستطيع أن يكون له وجهة نظر، وإنما يتعين عليه أن يروي ما يحدث في الحياة، لأنه من واجبنا، نحن معشر الفنانين، أن نكون شهوداً على ما نعيشه، ولذلك يجب أن لا يأخذ الفن منحى الفن فردياً، بل يجب أن يوضع في خدمة الإنسان.
لا تحصي ليتا قط، عدد أعمالها في المعارض، فاهتمامها ينصب على المضمون وعلى المفهوم، أولاً وأخيراً، ذلك المفهوم الذي تشحذه رغبة جامحة في إحلال السلم حول العالم، حيث ترى ليتا أن العالم الغربي ينطوي على نقد واسع حول المرأة العربية وحول العرب عموماً، في باريس وفي هولندا وفي كل أنحاء أوروبا.
حيث يريدون فرض مخالفات إذا ما وضعت النساء الحجاب، حيث تجد ليتا ذلك وحشياً وبهيمياً وعنصرياً للغاية وضد احترام التقاليد والعالم، وهي تقول: "هذه طريقة أحتج من خلالها على كل ذلك من خلال طرح الموضوع من منظور آخر، ذلك أن اضطهاد المرأة لا يكمن في حجاب، بل في نظام، وبالتالي لا تحشر نفسك في العادات والتقاليد".
عاشت ليتا طفولتها في بيئة اجتماعية فقيرة ومهمشة في أحياء برشلونة، لكن ذلك الواقع القاسي لم يؤثر في مسيرتها الفنية، بقدر ما ترك بصماته في حياتها، على الرغم من انعدام الفواصل بينهما، ذلك أن ليتا تجد نفسها، بلا رسم، نبتة جافة .
وتضيف : لو أني لم أعش الفقر والألم وعدم الأمان في حياتي، لما كنت قد تمكنت من معرفة الحياة كما أعرفها الآن، ولما كان بوسعي عندما أستيقظ كل صباح، أن أقول شكراً، كم أنا محظوظة، كما أثرت تلك الطفولة على عملي، لأني عشت الجانب الصعب من الحياة وأنا لا أنساه قط، وبالتالي، فإني عندما أرسم شخصياتي، أدرك ما الذي تشعر به».
بطاقة
ولدت ليتا كابيلوت في برشلونة في إسبانيا عام 1961 وترعرعت في بيئة متواضعة حيث راحت تتعلم في مدرسة الشارع، وعندما تيتمت في ربيعها الثالث عشر تم تبنيها من قبل عائلة، أخذتها إلى متحف برادو المدريدي، الذي كان له أثر كبير على الفتاة وأيقظ ميلها للعب بالألوان والخطوط.
وفي هذه المرحلة من حياتها اكتشفت شغفها بالفن، فراحت ترسم وترسم حتى أقامت أول معرض لها ولم تكن تجاوزت سن السابعة عشرة بعد، بينما تعتبر في يومنا هذا واحدة من أعظم الفنانين الاسبان وتتمتع بشهرة عالمية واسعة النطاق.
حيث تواصل عرض أعمالها الرائعة في مختلف جهات الدنيا الأربع. الرغبة في الحياة في مواجهة المأساة شكلت أحد أسس صعودها، فوجوه أولئك المتسكعين الذين رسمتهم جالت العالم واستحوذت على نقد النقاد واستحسانهم لها في معارض كثيرة، من بينها معرض حول الرسامة المكسيكية فريدا كالو وآخر حول كوكو شانيل وثالث حول شخصية كامارون دي لا إيسلا، الذي يعد ايقونة الشعب الغجري.
