قليلة هي المعلومات والدراسات التي توثق تاريخ نشأة السيرك ومسيرته، ليبقى بهذا، فناً مهملاً ومعزولاً عن الفنون الأخرى، كالمسرح والباليه والأوبرا والسينما. ومن المعلومات الشائعة، وغير الدقيقة في الوقت نفسه، أنه يرجع إلى العهد الروماني. وعموماً ،يمثل السيرك صيغة فنية إبداعية شاملة، إذ يتجسد في أعمال فرقة متنقلة تقدم عروضاً ترفيهية وبهلوانية، تشتمل على الموسيقى والرقص والمهارات الجسدية، إضافة إلى ترويض الحيوانات البرية والأليفة.

 

كان السيرك، في زمن الامبراطورية الرومانية، في عهودها المبكرة، مقرا ومرتعا لمعرض سباقات الخيول والعربات، وكذلك لعروض الفروسية. وأيضا ساحة للمبارزة والمصارعة واستعراضات الحيوانات المروضة، وألعاب المهارات. وعد السيرك، آنذاك، المكان الوحيد الذي يجتمع فيه الرجال والنساء، من العامة.

 

«سيركوس».. روما

حمل السيرك الاول في روما، اسم (ماكسيموس سيركوس). وكان له شكل الهلال، بطول 400 متر، وعرض 90 مترا. وبني بداية، من الخشب، ليتسع بعد ترميمه، ومن ثم يصبح مبنيا من الحجر، وغدا يتسع حينها، لما يقدر بـ 250 ألف شخص. وبعد سقوط روما، توقف السيرك وتفرق العاملون فيه، ليقوموا، إثرها.

وكجماعات يسكنها الحنين إلى السيرك الروماني، بتقديم عروضهم الجوالة بين المدن والقرى وفي الاحتفالات والمعارض المحلية. ويرى بعض الباحثين أن الغجر الذين ظهروا في أوروبا، خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، هم صلة الوصل بين السيرك القديم والحديث.

 

«مدرسة ركوب الخيل»

يرجع تاريخ السيرك الحديث إلى مؤسسه، البريطاني فيليب أستلي (1748-1814)، الذي كان فارساً برتبة رقيب أول، حيث لفتت موهبته في ترويض وتدريب الخيول، أنظار الجميع، أثناء خدمته في فترة حرب السبع سنوات التي نشبت بين عدد من الدول الاوروبية، في الفترة: (من 1756 والى 1763). وبعد تسريحه من الجيش، كان أستلي يستعرض مهارات ركوب الخيل، أسوة بمقدمي استعراضات الفروسية، واستطاع في هذه المرحلة، أن يحقق نجاحاً واسعاً.

واستلهم أستلي فكرة تأسيس السيرك، بعد ذلك، من لقائه مقدمي عروض الخيل، والذين كانوا بؤرة للجذب والتشويق ضمن حدائق لندن. وكانت البداية مع تأسيس أستلي، في عام 1768، مدرسة خاصة بركوب الخيل، في جوار جسر ويستمينيستر في العاصمة البريطانية. وكان المسرح التجاري الحديث في لندن، آنذاك يضم مختلف أنواع فنون الأداء. وأنشأ أستلي في موقع آخر، ما يشبه الدائرة، بقطر قدره 13 متراً. وهي ما اعتمده، عقبها، الفنانون المتخصصون بتقديم عروض الخيول، والتي تسمح للجمهور عموما، بمشاهدتهم. كما اعتمدت مساحة الدائرة كمقياس عالمي للسيرك.

وتألقت شهرة أستلي في عام 1770، من خلال استعراض مهاراته في الفروسية. وبعد تقديم موسمين من العروض في لندن، شعر بالحاجة إلى التجديد في برامج عروضه، فدعا لاعبي الأكروبات، والراقصين على الحبل، الى هذا المجال. وفي مرحلة لاحقة، استعار من المسرح شخصية المهرج البارزة، ووظفها في العروض، ليقدم عروضها بين الفقرات.

وهكذا تشكل فن السيرك الحديث العالمي. ويحسب لأستلي افتتاحه أول سيرك في باريس، في مدرج أنجلواز، عام 1782. وفي العام نفسه ظهر منافس له، وهو الفارس شارلز هيوز (1747 ـ 1797)، والذي كان يعمل سابقاً مع أستلي. وأسس هيوز بالتعاون مع شارلز ديبدين، كاتب الأغاني وعروض البانتومايم، مدرسة في لندن حملت اسم "السيرك الملكي وأكاديمية الموسيقى والفروسية".

تطور الشكل العام للسيرك في القرنين التاسع عشر وبدايات العشرين، ليصبح كالخيمة المصنوعة من القماش بداية، ومن ثم استخدم البلاستيك في صناعة خيمته، لاحقاً. وذهب هيوز عام 1793، ليقدم عرضاً في بلاط الملكة كاثرين العظيمة، في سانت بطرسبرغ في روسيا، وفي العام نفسه، افتتح جون بيل ريكيتس، أحد تلامذته، أول سيرك في الولايات المتحدة، تحديدا في فيلادلفيا، إذ حضر أحد عروض موسمه الأول الرئيس الأميركي جورج واشنطن. كما أسس ريكيتس في عام 1797، أول سيرك في كندا، ضمن مونتريال.

نقلة نوعية

حقق السيرك نقلة نوعية، في عام 1919، عندما اصبح لينين، رئيسا للاتحاد السوفييتي، آنذاك. وطلب أن يكون السيرك فناً للعامة، وهكذا أنشئت في موسكو، عام 1927، جامعة الولاية للسيرك والفنون المتعددة، والتي عرفت بـ"مدرسة سيرك موسكو"، إذ تم تدريب اللاعبين على المهارات التي جمعت فنون الجمباز. وعندما بدأ السيرك رحلاته في الخارج عام 1950، استقبل بالإعجاب والتقدير.

وشهد السيرك في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، تراجعاً ملحوظا، خفتت خلاله، شعبيته، ذلك مقابل صعود نجم الفنون الأخرى، وفي مقدمها السينما. ودفع هذا التراجع بعض القائمين على السيرك، إلى الابتكار والإبداع في حقول التوجهات الجديدة، وكان الأكثر نجاحاً، "سيرك الشمس" في كندا، والذي تجاوز عائده السنوي، ما يقدر بـ 810 ملايين دولار. وشاهد رعوضه أكثر من 90 مليون متفرج، في أكثر من 200 مدينة في القارات الخمس.

وعقب ذلك، بدأ المفهوم الجديد للسيرك المعاصر في السبعينات من القرن العشرين، ضمن استراليا وكندا وفرنسا والساحل الغربي من الولايات المتحدة، وكذا في المملكة المتحدة. وجمع السيرك المعاصر بين مهارات السيرك التقليدي وخصوصيته، إلى جانب تقنيات المسرح، ذلك سعيا الى تقديم قصة تشتمل على فقرات العرض.

ويركز السيرك المعاصر على التأثير الشامل لمجمل العرض، على صعيد الشخصيات وتطور أحداث القصة، بالتوازي مع استخدام مؤثرات الإضاءة والموسيقى، وايضا أزياء المشاركين. كما تقدم حالياً العديد من عروض السيرك على خشبة المسرح، بدلا عن خيمة السيرك، ذلك مع تضاؤل فقرات العروض الخاصة بالحيوانات.

 

مجتمع السيرك

عندما يبدأ موسم جولات سيرك ما، تسكن "عائلات السيرك"، كما تسمى، في عربات متحركة، تنتقل من مدينة إلى أخرى لتقدم العروض، يوماً بعد آخر. وفي خضم عملهم اليومي لدى هؤلاء، الشاق والروتيني، تومض بعض اللحظات التي لا تنسى، تحت أضواء السيرك، او خلال أحد العروض، أو في اكتشاف المدينة.

وتعتقد الغالبية أن مجتمع العائلات التي نشأت، أباً عن جد، في عالم السيرك، تعيش في عالم مختلف ومنعزل عن المجتمع المدني، لكن هذا الانطباع غير صحيح، فوقت الابناء موزع بين الدراسة والتدريبات واللعب مع أصدقائهم.

وأبرز الإيجابيات في مجتمع عائلات السيرك، أن الأبناء يعيشون في بيئة آمنة، حيث يعرف الأهالي أصدقاء أبنائهم في المحيط نفسه، إذ يمتد تاريخ المعرفة بين أسرة السيرك، إلى أكثر من جيلين، إضافة إلى أن عمل الأبوين، يبقيهما في محيط أولادهما، بصورة دائمة.

 

قالوا عن حياتهم

يمكن التعرف على جوانب متنوعة، من حياة شريحة واسعة لـ"عائلات السيرك"، من خلال لقاء صحافي أجرته إحدى المطبوعات، مع الفتاة الشابة روز إيسكويدا(13 عاما)، التي تعمل ضمن سيرك في المكسيك، إذ تقول إن لديها الكثير من الأصدقاء، وإنها تسافر مع والدها مدرب الفيلة.

وهي تعتبر هذه الفيلة كشقيقاتها الاكبر سنا. ولفتت روز في الحديث ذاته، إلى انها تشارك في بعض العروض. وهي تقول ايضا، إن العمل في السيرك، مجهد بعض الشيء، ولكن وجودها الدائم مع الأسرة، يمنحها سعادة غامرة.

وأما عن التعليم، فتقول روز، إنها تتابع دراستها، أسوة ببقية الأطفال في السيرك، دون أي تقصير في المنهاج، ولها حرية الاختيار في متابعة دراستها في إحدى الجامعات، كما هي حال شقيقتها الكبرى. يحكي المهرج والأكروبات براين ديوهرست، الذي يعتبر الأكبر سناً في "سيرك الشمس" (لا يزال يشارك في العروض رغم بلوغه الثمانين من العمر)، عن رحلته مع السيرك، مبينا أن ما يثير دهشته، تعجب الناس من استمراره في تقديم العروض، ويقول ان والده استمر في تأدية العروض حتى أواخر العقد الثامن من العمر.

ويلفت ديوهرست، إلى انه يتمثل دوره في إثارة حماس الجمهور وإضحاكه. وكان لافتا انه، وفي العرض الخاص لعيد ميلاده الثمانين، أمطر الجمهور بحبات (البوشار)، ليقوم افراد الجمهور بتمزيق بطاقات عديدة، ونثرها كقصاصات الزينة في الفضاء، من حوله.

 

 

 

متحف للسيرك

 

يضم متحف السيرك العالمي في منطقة بارابو، في الولايات المتحدة الأميركية، كل ما يرتبط بتاريخه من العربات والمعدات وديكورات العروض، ووصولا إلى قصص أشهر اللاعبين. كما يستضيف المتحف ذو المساحة الشاسعة، عروضاً يومية للسيرك، خلال موسم الصيف. وكانت قد أسست هذا المتحف، جمعية ويسكونسن التاريخية، غير النفعية. وكان مبنى المتحف مقر إقامة الأخوين رينغلينغ الذين أسسا سيركاً في عام 1884، وحققا نجاحاً كبيراً.

 

 

الموسيقى والسيرك

 

ألهم عالم السيرك الكثير من الموسيقيين، ومن أشهر المقطوعات الموسيقية التي ارتبطت بالسيرك (دخول المحاربين)، التي لحنها يوليو فوسيك، في عام 1897، كلحن عسكري. ومن ثم ليقوم الملحن الكندي لويس فيليب لوراندو، بإعادة توزيعها، لتحمل اسم (رعد وحرائق)، إذ شاع استخدامها في افتتاحيات عروض السيرك عند دخول المهرجين.

كما ألهم ملصق للفنان بابلو فانك عن السيرك الملكي، الموسيقار البريطاني جون لينون (1940 1980) من فرقة البيتلز الشهيرة، لكتابة كلمات أغنية (لمنفعة السيد كايت). ويرجع عنوان الأغنية إلى ويليام كايت لاعب السيرك الشهير، في القرن التاسع عشر.

 

 

 

عربياً..

 

استلهمت السينما العديد من القصص عن عالم السيرك، وإن كانت الأفلام القيمة، نادرة في هذا المجال، ومن أبرزها فيلم (ترابيز)، في عام 1956، والذي تناول قصة درامية عن التاريخ القديم لفريق (سيرك الشتاء) في باريس.

وضمت السينما العربية، العديد من الافلام التي تدور قصصها في عالم السيرك، منها الفيلم الكوميدي (غرام في السيرك)، من بطولة اسماعيل ياسين وبرلنتي عبد الحميد ونجوى فؤاد وفاروق عجرمة وتوفيق الدقن وجمالات زايد، وهو من إخراج حسين فوزي. وكذلك فيلم (السيرك) في عام 1968، من بطولة نبيلة عبيد وحسن يوسف وهدى سلطان ومحمد عوض، وإخراج عاطف سلامة.

 

الأدب والسينما

 

هناك مجموعة من اهم المسرحيات الأولى المستهلمة من عوالم السيرك، ومنها : مسرحية (فتاة السيرك) في عام 1896، للموسيقى والكاتب المسرحي البريطاني ليونيل مونكتون (1861 1924). وهناك ايضا مسرحية (ذاك الذي يصفع) في عام 1916، للكاتب الروسي ليونيد أندريف، التي حولت إلى أول فيلم سينمائي عن السيرك.