أبعاد حيوية شتى، ترتسم معالمها ويشع بريق غناها، مع أي من الأحاديث عن الراحل سلطان بن علي العويس ومنجزاته، وذلك بعيداً عن عوالم إبداعه في روض الشعر أو نجاحاته في عالم المال والاقتصاد والتجارة.. فجميع من صاحب سلطان أو عايشه وخبر قصصه، يعرف عشرات الحكايا والمواقف التي تكشف عن نبل أخلاق وشيم هذا الرجل الاستثنائي.
والذي ينتمي إلى جيل اشتهر أبناؤه بالسيرة العطرة وبامتلاك ناصية الأعمال الجليلة والخلاقة. وهذا جميعه، لم يك غريباً عليه، أو بعيداً عنه، هو ابن وسليل عائلة جُبلت على الخلق الكريم، وتوارث أبناؤها تلك السمة، جيلاً بعد آخر.
لا يغيب عن ذاكرتي، مطلقاً، موقف للراحل سلطان بن علي العويس، كنت عايشته عن كثب، وحدث عقب أن أُشهرت "مؤسسة العويس الثقافية"، من قبل حكومة دبي- بموجب المرسوم رقم 4 لسنة 1964، إذ تزامن صدور المرسوم ذاك، مع يوم الاحتفال بتوزيع جوائز الدورة الثالثة للمؤسسة:
( يوم الخميس - الموافق: 7 مارس 1964).. وبينا كنا نتابع التحضيرات والاستعدادات الصباحية لفعاليات حفل جوائز المؤسسة، المقرر إقامته، آنذاك، مساء اليوم ذاته، في فندق حياة ريجنسي، فوجئنا بدخول أبو علي، حاملاً بيده نص المرسوم، وذلك رغبة منه في أن يقدِم إلينا هو شخصياً، ليبشرنا، نحن الذين كنا منهمكين بالعمل في صبيحة ذلك اليوم التاريخي، بهذا الإنجاز.
مقر جديد وتقدمة سخية
أعلن عبد الغفار حسين، في الحفل الرئيسي لتوزيع جوائز الدورة الثالثة لمؤسسة العويس (السابع من مارس عام 1964م)، عن إشهار المؤسسة، في الكلمة التي ألقاها نيابة عن مجلس الأمناء. وبعد يوم واحد من الإشهار، قدم سلطان العويس إلى المؤسسة، شقة سكنية تقع ضمن بناية يملكها، لتكون مقراً مؤقتاً لها، وهي كائنة في شارع الرقة في دبي، فوق مطعم بيروت.
ورافقت معالي عبد الرحمن العويس (وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع في الإمارات، حالياً)، حينها، في جولة خصصت للكشف على الشقة، ومن ثم استلامها. وشرعنا عقبها، في تأثيث المقر الجديد، وكذا مضاعفة خطوات عملنا في شأن استكمال كافة متطلبات انتقالنا السريع، وممارسة أعمالنا كهيئة اعتبارية مستقلة لم تعد تنضوي تحت خيمة اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات.
وهكذا تحققت واكتملت لدينا في المؤسسة، حلقات وأرضية المربع الأول، في مشوار الألف ميل، بشأن تأسيس مؤسسة ثقافية، سيكون لها شأن كبير ودور مؤثر. كانت تلك الشقة، والتي مثلت أول مقر لمؤسسة العويس الثقافية، عبارة عن صالة استقبال وغرفتين.. ولكنها لم تكف، آنذاك، في تلبية احتياجاتنا لاستيعاب كتب المرشحين لنيل الجائزة، إذ لم يتسع المكان لخزانات مخصصة ورفوف وملحقات متنوعة، فكان من إفرازات ذلك أن المقر أصبح يتحول أحياناً إلى ورشة عمل يومية تركز على بحث وترتيب مقتضيات علاقة وارتباطات أرشفة كتب المرشحين وملفاتهم.
وطبعاً، لم يقتصر الأمر على هذا، إذ واجهنا صعوبة في تخصيص غرفة لاجتماعات مجلس الأمناء، ضمن المقر. وهكذا خلصت الأمانة العامة، إلى تبني قرار مفاده ضرورة البحث عن شقة أخرى إضافية، تضمن توفير مختلف المتطلبات والاشتراطات والضرورات، وكذا أن تكون قريبة من المقر الجديد لضرورات العمل.
لا سفر قبل إنجاز المهمة !
وفي تلك الأثناء، وفقط بعد أسابيع قليلة على استلام المؤسسة للشقة الأولى ( مقرها)، ومن ثم فتح مكاتبها، صادف أن خلت الشقة المحاذية للمقر، وفي البناية نفسها، من مستأجريها. فحاولنا الإسراع في مقابلة سلطان العويس لنطلب منه تلك الشقة.
ولكن حال دون ذلك، تعرض أبو علي إلى حادث مأساوي أُدخل إلى المستشفى على أثره، وقرر الأطباء نقله إلى خارج الدولة لاستكمال علاجه، وبعد المداولة مع الأخوة في الأمانة العامة، وكان من بين أعضائها معالي عبد الرحمن العويس، تقرر تأجيل الطلب إلى حين عودة سلطان العويس من رحلته العلاجية إلى الدولة..
واتفقنا جميعاً على تأجيل مشروعنا ذاك، إلا أن أمراً استجد، قلب الأمور رأساً على عقب، وأزال طريق الانتظار من أمامنا، إذ ذهبت لأودع سلطان العويس وهو يقيم في مستشفى راشد في دبي، وذلك قبل سفره إلى خارج الدولة بغرض العلاج.
واستبق موعد الوداع إيذاناً بمغادرته في الرحلة تلك، بأن طفق يحادثني ويسألني عن المرحلة الجديدة في ماهية حياة وعمل المؤسسة، بعد الإشهار. وفي سياق كلامي وإجاباتي عن تساؤلاته، تعمدت الإشارة إلى عدم استيعاب أو تلبية المقر الجديد، لاحتياجاتنا ومتطلباتنا كافة، وشرحت له، عقبها، إمكانية الاستفادة من الشقة المجاورة في البناية ذاتها، والتي كانت قد فرغت من المستأجرين.
وما كان منه إلا أن بادر فوراً بإعلان استعداده تقديم الشقة الأخرى إلى المؤسسة، فطلب مني أن أذهب، فوراً، إلى المكتب كي أحرر رسالة، باسمه، موجهة إلى مدير العقارات لديه، تقضي بأن يمنح المؤسسة، الشقة الثانية، وأن تنص على أن يكون هذان المقران مجانيين تماماً.
وذلك إلى حين إيجاد مقر مناسب للمؤسسة، في المستقبل. وأكد حينها، ضرورة أن أسرع في إحضار الرسالة مطبوعة، قبل أن يغادر المستشفى. وفي موازاة ذلك، طلب من الأطباء تأخير موعد خروجه إلى المطار، إلى حين عودتي.
وبالفعل أسرعت إلى مكتبي، ولم تك المسافة بعيدة بين مستشفى راشد وشارع الرقة، فأنجزت تحرير وطباعة الرسالة المطلوبة، وعدت إلى المستشفى، وحينها، كان الأطباء قد نقلوا سلطان العويس من سرير العلاج إلى الآخر المتحرك (النقالة)، ولكنه كان ينتظرني وهو على حاله تلك، رافضاً الخروج من الغرفة إلى سيارة الاسعاف التي ستقله إلى المطار.
وفور وصولي، سارع إلى التوقيع على الرسالة (الأمر)، القاضية بتسليم الشقتين إلى المؤسسة، لتستخدمهما في أعمالها، دون أن تدفع أي مقابل مادي. ومن ثم تابع، رحمه الله، طريق رحلته العلاجية، فتحرك، مستخدما السرير النقال في مستشفى راشد، باتجاه سيارة الإسعاف، والتي نقلته إلى المطار، آنذاك.
تصوروا!.. رجل مريض وموجوع، والأطباء يريدون نقله إلى عربة الإسعاف كي يسافر للاستشفاء في خارج الدولة، ولكنه أبى إلا أن يؤجل جميع الإجراءات، الضرورية والمؤثرة على صحته العامة، غاية أن ينتظر إتمام متطلبات إنجاز توقيع وعد وعهد، يمنح بمقتضاه، شقتين سكنيتين في بناية له بشارع الرقة في دبي، إلى مؤسسة العويس الثقافية.. إنه موقف متميز بلا شك.
وحين عُدت إلى الأخوة في الأمانة العامة، حاملاً تلك الرسالة بيدي، استغربوا كثيراً، كونهم على يقين حينها، بأن أمر طلب الشقة الجديدة من أبو علي، كي تستفيد منها المؤسسة، تأجل إلى حين عودته من رحلته العلاجية.. وكان ذهولهم، آنها، ممزوجاً بعبارات الشكر والتقدير والتثمين لمواقفه ومبادراته.
والتي تبقى على الدوام، صورة شفافة لنبل شخصه، ولشعوره بالمسؤولية، ذلك حتى في اللحظات الحرجة، أو في غمرة آلام المرض والمعاناة الصحية، إذ لم يحدث أن تخلى عن الإسراع إلى تلبية متطلبات أية مصلحة مجتمعية، تحت أي ظرف من الطروف، مهما كان قاسياً أو قسرياً.
بوشرت، بعدها، أعمال ترتيب المقر الجديد (المضاعف) وتحضيره، فهدم الجدار الفاصل بين الشقتين، واستغلت الجديدة كغرفة لاجتماعات مجلس أمناء جائزة العويس. كما خصصت وجُهزت الغرف الأخرى، ليكون جزءاً منها، بمثابة مخازن متكاملة غرضها استيعاب كتب المرشحين، والآخر ليستعمل كمكاتب ورشة العمل التي أُعدت لفرز كتب المرشحين وملفاتهم.
مبادرات ثمينة
لا يمكن حصر أو تعداد مواقف سلطان بن علي العويس، المدللة على قيمة حسه بالمسؤولية المجتمعية، وحرصه على أن يبقى سباقاً إلى الأعمال الخيرة والإنجازات العاكسة لنبل شخصه.. ويحضرني موقف له، من بين أخرى كثيرة، كان خلاله، مسافراً خارج الدولة، إذ اتصل بي الروائي السعودي الراحل، عبد الرحمن منيف، مستنجدا بالمؤسسة، لمساعدة المسرحي الراحل سعد الله ونوس، بحيث تبادر إلى توفير جزء من تكاليف علاجه من مرض السرطان، ذلك كون الحقن المخصصة التي يحتاجها لا تتوفر في سوريا، وتُجلب من الخارج.
وتُكلف عشرة آلاف دولار أميركي، وهو مبلغ لا قبل لسعد الله ونوس أو لعائلته، به، خصوصاً وأنه كان قد اشترى بمبلغ المكافأة التي حصل عليها من جائزة العويس، بيتاً يضمن لعائلته السكن والمستقبل.. وبذا استنفد قيمة المكافأة ولم يعد يملك شيئاً بمقدوره توظيفه في عملية العلاج باهظ التكاليف، والذي يعجز عنه رجل من المستوى المادي لهذا المبدع الذي رهن نفسه للمسرح، وكان لا مردود له إلا راتبه المتواضع في مسرح القباني في دمشق، إذ يقيم به أود عائلته.
وبطبيعة الحال، لم تكن المؤسسة يومها، تستطيع أن توفر هذا المبلغ، ذلك ليس لأن المسؤولين غير راغبين في المساعدة بهذا الخصوص، وإنما كون إيراداتها أقل من المستوى المطلوب الذي يؤهلها لأن تكون في مصاف أو تصنيف الجهة القادرة على تبني مثل هذه المبادرات، ولدفع مثل هذه المعونات. ولم يك أمامنا في المؤسسة، حينذاك، إلا حل واحد ووحيد لا بد منه.. وهكذا اخترنا اعتماده كمخرج موثوق، خصوصاً في ظل معرفتنا باندفاع أبو علي إلى مد يد العون للجميع، وبشكل مميز، لأهل الأدب والعلم، ولكننا، وجدنا أن سلطان العويس، عند اعتزامنا اللجوء إليه بهذا الشأن، مسافراً خارج الدولة.
كما أسلفت.. وهنا لم تطل بنا حال الربكة، إذ زودنا نواف العصيمي ( أبو عصام )، مدير مكتبه، برقم هاتفه في البلد الذي كان يقيم فيه، فاتصلنا به وشرحنا له الموقف.. فما كان منه إلا المسارعة إلى توجيهي بالذهاب إلى أبي عصام، ومن ثم أن أطلب منه تحويل مبلغ قدره عشرة آلاف دولار أميركي، إلى زوجة سعد الله ونوس في دمشق. لم يتأخر أخونا العصيمي في تحويل ذلك المبلغ.
وما إن وصل هذا المبلغ إلى دمشق، حتى علم الرئيس حافظ الأسد بحاجة ونوس المادية، والتي تعترض طريق تلقيه العلاج من مرض السرطان، ومن ثم علم بتبرع سلطان العويس إليه، فوجد الأسد أن ذلك يمس سمعة حكومته، والتي كانت أصلاً قد حاصرت سعد الله ونوس واضطهدته كثيراً، وفجأة، أمر الرئيس السوري، حينذاك، أن تتحمل وزارة الصحة في بلاده، تكاليف علاج سعد الله ونوس، والمقدرة بمبلغ عشرة آلاف دولار أميركي.
قصة إباء
لم ينته الأمر، عند هذا الحد، لأن أزمة كبيرة برزت، آنها، وفجرها سعد الله ونوس، رغم كل ما كان يعانيه من ألم وتدهور في حالته الصحية بموازاة انتشار الورم في أنحاء جسده، إذ اتصل بي شاكراً مبادرة سلطان العويس، ومعرباً عن اعتزامه إعادة المبلغ كاملاً، لأن العلاج دُفع ثمنه، وهو لا يمكن أن يقبل أخذ هذا المبلغ، والذي رأى أنه أصبح فائضاً عقب إتمامه العلاج. وهنا، حاولنا إقناعه بعدم رد المبلغ، لأن سلطان العويس كان بالأساس، منحه كهدية لابنة سعد الله.
ولكنه أبى ورفض بشدة. ولم يهدأ له بال إلا بعد أن أعاد المبلغ كاملاً. إن ذلك موقف ليس غريباً أو نادراً في حياة سعد الله ونوس، فأنا وغيري، نعرف الكثير عن مواقف تعكس إباءه وعدم تعلقه بالجانب المادي، فكان، على سبيل المثال، قد رفض أن يستلم مكافأة رمزية من مسرح دبي الشعبي، عن مسرحيته "رحلة حنظلة" التي أخرجتها أنا، ومن ثم شاركت بها دولة الإمارات في فعاليات إحدى دورات مهرجان دمشق المسرحي..
وأصر ونوس على عدم قبول المكافأة، ذلك لأنه علم من مصادر أخرى، أن مسرح دبي الشعبي لا يمتلك ميزانية كبيرة، وأن معظم العاملين في المسرحية لا يتقاضون المكافآت، وتكررت المسألة مع سعد الله ونوس، حين دعاه اتحاد كُتاب وأدباء الإمارات، إلى ندوة مهمة، ضمن أجندات وبرامج أنشطته الدورية، فقرر مجلس الإدارة صرف مكافأة لونوس، قدرها 2000 درهم.
وحين قدمتها إليه، رفض استلامها، لأنه كان يدرك أن الاتحاد يحتاج بدوره إلى المعونة. إن هذه المواقف تشي، أيضاً، بنبل سعد الله ونوس، وبقدرته على الرفض مثل القبول، حسب إرادته، وكذا حاجته، وهي مواقف ربما نفتقدها الآن، في الحياة الثقافية.
ولا تغيب عنا قضية مهمة في سياق الحديث عن سعد الله ونوس وعلاقته بالإمارات وبجائزة العويس، فحتى مع ما حققه من إنجازات في المسرح العربي وكذا تحول تجربته العربية إلى مصاف الشهرة العالمية، لم يأت ترشيحه لنيل جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، من قبل المؤسسات أو الجامعات أو اتحادات الكُتاب في سوريا، وإنما كانت عبارة عن مبادرة من كلية الآداب في جامعة الإمارات، والتي رشحته إلى الجائزة مع الأديب السوري حنا مينا. إلا ان فوزه بالجائزة، مثّل، في ما بعد، إحدى أهم الدلالات وأيضا المعايير، التي باتت المؤسسة تأخذها في الاعتبار، بالنسبة لمستوى وأهمية المرشحين والفائزين بجوائزها، لاحقاً.
موقف لا ينسى
رفض أبو علي أن يسافر لتلقي العلاج قبل تلبية احتياجاتنا إلى في المؤسسة، بعد أن أعلمته وهو يهم بالتحرك نحو المطار، أن المقر الجديد الذي قدمه للمؤسسة، والكائن في شارع الرقة، لا يكفي لتوفير كافة احتياجاتنا. فطلب مني الإسراع إلى المكتب وتحرير رسالة باسمه، تقضي بتقديم الشقة المجاورة للمقر، إلى المؤسسة، لتستخدمها، مع الأولى بشكل مجاني.
وعندما أنجزت الرسالة المطبوعة وعدت إليه في المستشفى، وجدته ينتظرني، رافضا التحرك إلى سيارة الإسعاف التي كانت ستقله إلى المطار، إلى حين وصولي، ولحظتذاك، أخذ الرسالة ووقعها، ثم تابع مشواره متوجهاً إلى المطار.
مبادرات لم تتوقف
اتصل بي الروائي السعودي الراحل، عبد الرحمن منيف، مستنجداً بالمؤسسة، لمساعدة المسرحي الراحل سعد الله ونوس، عبر المبادرة إلى توفير جزء من تكاليف علاجه المكلف، من مرض السرطان، كون بعض الحقن المخصصة لعلاجه لا تتوافر في سوريا، وتُجلب من الخارج، وهي تُكلف عشرة آلاف دولار أميركي.
وهو مبلغ لا قبل لسعد الله ونوس أو لعائلته، به، فلجأنا في المؤسسة إلى الراحل سلطان العويس، والذي كان في رحلة خارج الإمارات، ولكنه لم يتردد في توفير المبلغ عبر توجيهنا بطلب المبلغ من مدير مكتبه نواف العصيمي، فحولناه إلى زوجة ونوس.

