حين يختار الأديب تحمل أعباء الكتابة الابداعية المحاكية هموم الناس أو المهجوسة ببحث عمق القضايا العامة والتساؤلات الحياتية، لن تقترب مفاهيمه ورؤاه، عندها، من الانشغال بصوغ ملمح منتج فكري احتفائي الطابع يتسم بنمطه التجميلي والشكلاني.
هذا فعلياً ما يمثّل مذهب الأديب الكويتي طالب الرفاعي الذي حوّل قلمه ريشة تعشق ألوان الوجود وتعانقه، ليرسم صفحات الكلمات على جسد لوحة قصصية وروائية سمتها النزوح نحو الفانتازيا، دون التخلي عن الواقع، فأصبح كمن يستكشف الكون عبر الأدب.
يؤكد طالب الرفاعي، في حواره مع مسارات، أنه لا يوافق على مقولة: الرواية العربية شريكة لوكالات الأنباء، فهي، برأيه، مؤرخ صادق ومهم للأحداث في المنطقة. كما يوضح الأديب الكويتي، أن نهجه في عوالم الرواية والأدب، تجسيد شفيف لفهمه طبيعة مسؤولية المبدع في المجتمع.
مشيراً إلى أنه مسكون، دوماً، بهم تخليق وتعميق مساقات نبش الرواية وتنقيبها عن الحقيقة، مستفيداً في هذا الواقع، من درس فيض المكون المعرفي المتراكم والمختزل، وتقييم ارتباطاته وتشابكاته مع واقع الحياة اليومية وتفاصيل عيش الناس.
ولادة من رحم الصحافة
تميزت الكويت ببزوغ فنون وإبداعات القصة القصيرة، فيها، منذ فترة مبكرة (عشرينات القرن الماضي)، بدءاً من قصة منيرة للكاتب خالد الفرج، ووصولاً إلى أعمال عديدة غيرها، لمبدعين من الجيل الأول، مثل: فهد الدويري، فاضل خلف، وفرحان راشد فرحان. فإلى أين وصل مستوى ارتقاء وتطور فن القصة القصيرة في كويت اليوم؟
ولد فن القصة القصيرة في الكويت، في حضن الصحافة، حيث نُشرت قصة منيرة للكاتب خالد الفرج عام 1929، ضمن مجلة الكويت التي أسسها المؤرخ والباحث عبدالعزيز الرشيد عام 1928، وهذا يدل على العلاقة الوطيدة بين وجود الصحافة وانتشار فن القصة. وعلى امتداد سبعة عقود، تدرجت مسيرة القصة القصيرة في الكويت، من القصة الوعظية المتأثرة بالواقع الاجتماعي.
والتي تحاكي وعي القارئ بشكل مباشر، ومروراً بالقصة الواقعية، ومن ثم وصولاً إلى مختلف أنواع القص، وبأحدث تقنيات الكتابة القصصية، وكل مرحلة شهدت بروز أسماء مبدعة، كفهد الدويري وفاضل خلف وفرحان راشد الفرحان. وجاء بعدهم جيل آخر، مثل، إسماعيل الفهد وسليمان الشطي وسليمان الخليفي. وبعده، تتالت أجيال كثيرة في الإبداع القصصي، ومن بين هؤلاء:
ليلى العثمان، وليد الرجيب، طالب الرفاعي، منى الشافعي، فاطمة العلي، حمد الحمد. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن القصة الكويتية بقدر خوضها في قضايا الواقع المحلي، ظلت على الدوام متصلة بالقضايا العربية. وربما أن ذلك ساعدها على الوصول إلى القارئ العربي. وهذا الأمر لا يزال قائماً حتى الوقت الحالي، بوجود أسماء شابة واعدة، منها: خالد النصر الله، وحميدي حمود، سعود السنعوسي، بسام المسلم، حوراء الحبيب، عبدالوهاب سليمان.
ز س..
* تكثر الأحاديث عن أن تجربة كتّاب القصة القصيرة في العالم العربي، مبنية على مرحلة تعلم وتأسيس لموهبة غير مصقولة، وكذا انها تستند إلى تجارب سابقة مبتورة أو إلى نماذج تم تطويرها بشكل مستنسخ. ويشار هنا، إلى اننا لا نمتلك، خليجياً وعربياً، ترف الكتابة الكاملة. كيف تفسر هذه التحليلات، وما معيار تقييم تجربة القصة في الكويت والخليج (مجموعتك الأخيرة -سرقات صغيرة- كنموذج)؟
أرى أن تجربة أي كاتب، عربياً كان أو غير عربي، تتأتى من بيئته الأسرية ومحيطه الاجتماعــي، وبشكل أساسي، من خوضه وتحصيله في عالم القراءة، وأخيراً من موهبته. إن القراءة هي الحافز الأول على الكتابة. وحين ينتقل الشخص من عالم القراءة إلى الكتابة، فإنه بحاجة إلى معرفة أصول الفن الذي يشتغل فيه، وهذه المعرفة قد تتوفر عن طريق الدراسة أو التجربة الذاتية، ودائماً تكون مندغمة بموهبة الكاتب، خاصة وأن تدريس فنون الإبداع الكتابية عبر الورش المتخصصة، أمر لا يزال مفقوداً في عالمنا العربي، حتى يومنا الحالي.
وتكتفي المدارس والمعاهد العربيــة، وأيضاً الجامعات، بتقديم مناهج سطحية حول أساسيات الكتابة بعمومياتها. لذا فإن الكاتب العربي وليد جهده الخاص وموهبته وتحصيله ودراساته وتجاربه الكتابية وربما خيباته. ومؤكد أن عالمنا العربي، ومنذ بدء مسيرة القصة القصيرة، زخر بأسماء وقامات قصصية كبيرة، ليس عربياً بل وعالمياً، من أمثال يوسف إدريس وزكريا تامر ومحمد خضير ومحمد زفزاف وسعيد الكفراوي، وغيرهم كثير.
وبالنسبة لمجموعتي القصصية الأخيرة (سرقات صغيرة)، الصادرة عن دار الشروق في مصر بطبعتها الأولى عام 2011، وإعادة طباعتها في طبعة ثانية بعد مرور أقل من سنة، فهي المجموعة السادسة. وأنظر إليها بوصفها حصيلة كتاباتي القصصية.
وهي تقدم مواقفي وقناعاتي الإنسانية، وتعكس انحيازي إلى الفئات المهمشة اجتماعياً، كونها تشكّل الفضاء الأوسع الذي أتحرك فيه، كما ان المجموعة تقدم فهمي لمختلف تقنيات فن القصة القصيرة، وخاصة ما يتعلق بضمير سرد المتكلم، والتفريق بين زمن القص وزمن الحكاية.
القاص الكويتي واقعي
تجربة ما بعد الحداثة في عالم القصة القصيرة والرواية، عنوان جدلي آخر؛ ونجد ان مرايا التجريب والتجريد عكست نفسها في شخصية قلم القاص الكويتي. ماذا عن هذا المفهوم؟ وبما أنك تنتمي إلى المدرسة الواقعية، كيف تشرح ماهية تجربتك بهذا الخصوص؟
كما سبق وقلت، القصة القصيرة في الكويت تجاري مثيلاتها في الوطن العربي، وذلك من حيث تعدد تقنيات الأشكال والصيغ التي تُكتب بها، ومن حيث المضامين التي تتعرض لها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن حركة نشر الكتاب العربي باتت متحركة وفاعلة بانتشار معارض الكتب العربية المتنقلة، التي تحمل للقارئ العربي آخر ما أنتجه الإبداع والفكر العربي والعالمي.
وبالتالي فإن تجربة الحداثة وما بعد الحداثة كنظرية، لابدَّ وأن تكون قد وصلت للكاتب العربي/ الكويتي، لكن التأثر بها، قد لا يبدو جلياً من خلال النصوص المنشورة، فمعظم النصوص القصصية الكويتية، تنتمي إلى المدرسة الواقعيـــة، عبر اتخاذها للحدث الواقعي الاجتماعي، جذراً لحكاياتها، وعبر سردهـــا بصيغ معروفة للقـــارئ وبعيــــدة عن التجريب المفرط.
وفيما يخص كتاباتي، فأنا أكتب عن صور وأحداث من الواقع المــعاش، مضافـــاً إليها بعض الشيء من الخيال والفانتازيا، أو ما يمكـــن أن أطلق عليه، سحر الكتابة في نقلها للحدث الإنساني من خانة الواقعي إلى فسحة الفني. إن الحدث الإنساني يمر في معبر مخيلــــة الكاتــــب العجيبــــة قبل أن يصل إلى محطـــته الفنيـــة. وبالتالـــــي فإن كتاباتي هي خليط بين الواقعـــي والفانتــــازي، خليـــط بين واقــــع حياتي معاش، وآخر فني يتقاطــــع معـــه ولكنه أكثر رحمة وعدالة بالإنسان.
خصوصية الأدب الخليجي
هل تؤمن بمفهوم الجنس الأدبي العام لأدب الرواية العربية، أم أن للرواية الخليجية مفهومها الخاص؟
- أجد أن مجمل النتاج الروائي العربي، إنما يكوّن ما يمكن أن نطلق عليه: مائدة الرواية العربية. فهناك نتاج عربي روائي، وهو نتاج ملوّن وغني، وتلاوينه تنبع من بيئاته المختلفة والمتباينة. ومؤكد أن للرواية الخليجية صورة تميّزها، وهذا التميّز يأتي من كونها تنطلق من بيئاتها المحلية الخاصة، وبكل ما تحمل كلمة بيئة من معنى متسع، إنسانياً وفكرياً وتاريخياً واقتصاديــاً واجتماعيـــاً وثقافياً.
وذلك كمـــا هي الروايـــة اللبنانية أو المصرية أو المغربية أو العراقية أو السودانية أو الجزائرية أو الليبية، أو أية رواية عربية أخرى. ومن هنا يتضح أن الرواية الخليجية هي بالضرورة، جزء من نسيج الرواية العربية.
وجه مشرق
يرى كثيرون انه تبلورت بنية الرواية العربية الكاملة، وكذا مضمار الرواية الواقعية، مع مضمون وصيغة ثلاثية نجيب محفوظ. ومن ثم لم نجد بعدها، أي عنوان تأسيسي آخر. فهل هذا بفعل وتأثير إشكالية نقدية في مجال بحث الرواية؟
إن الناظر إلى مكون روايات نجيب محفوظ، وما جاء بعدها من روايات عربية، يرى بوضوح تعدد الأصوات الروائية العربية التي خرجت من معطـــف رواية محفوظ، ولكنها قدمت نفسها بشكل مختلف ولافت، وهـــذا الكلام ينطلق من الرواية المصرية، كروايات خيري شلبي وجمـــال الغيطاني وصنع الله إبراهيم ويوسف القعيد.
وكذلك هو يمتد إلى: محمد البساطي وإبراهيم أصلان وعبده جبير وإبراهيم عبدالمجيد، وغيرهم. والأمر ذاته في النظر إلى روائيين عرب، كان لهم بصمة واضحة على مسار الرواية العربية من حيث الكم والكيف، ومنهم :عبدالرحمن منيف وحنا مينا وإسماعيل الفهد والطيب صالح وفؤاد التكرلي وإبراهيم الكوني والطاهر وطار وواسيني الأعرج، وأيضاً عدة كتّاب آخرين.
إن كل واحد من هؤلاء الكتّاب العرب، كتب روايته بصوته الخاص، راسماً عوالم وبيئات حكاياته. والقول إن نجيب محفوظ هو مؤسس الرواية العربية الحديثة، صحيح تماماً، ولكن الصحيح أيضاً، هو أن ثوب الرواية العربية اتسع وتلون كثيراً، خاصة خلال العقـــول الأربعة الماضية، ليقدم رواية عربية مختلفة، لا تحمل من إرث نجيب محفوظ الروائي، إلا تشرفها بأن يكــــون هو مؤسســـها، ولا شيء آخر غير ذلك.
(سوق الإعلام الأدبي)، وسطاء دور النشر والإعلام المرئي والمقروء، وكلاء الترشيح للجوائز.. هل تلعب هذه العوامل أي دور سلبي في جوهر ومناخات بروز المواهب الإبداعية العربية الحقيقية؟ وكيف تصف تجربتك كأول خليجي يرأس لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية (في الدورة الثالثة)؟
بيئة الثقافة العربية، وتحديداً ساحة الرواية، إبداعاً ونقداً وصحافةً، هي كأي بيئة أخرى، اقتصادية أو اجتماعية أو رياضية، لها وجهها المشرق، والآخر المليء بالبثور، والمتمثل في الشللية والتنفيع والدسائس. ولهذا فإن علاقة الكاتب الروائي بالناشر والناقد والصحافي والإعلامي، علاقة إنسانية بالمرتبة الأولى، ولأنها كذلك، فهي تخضع أحياناً للموضوعية والشفافية والصدق الواضح، لتنعطف أحياناً أخرى في دروب المنفعة المتبادلة، خاصة وأن الكاتب العربي لا يزال يعاني من فقدان العلاقة السوية مع الناشر.
وكذلك يعاني من عدم وجود وكيل أعمال له. وأيضاً لا يزال في كثير من الأحيان، غير متفرغ للكتابة. جميع هذا، مجتمعاً، يجعله في حاجة الآخر: الناشر والناقد والصحافي والإعلامي، مما يترتب عليه، بروز وضع غير صحي أو صحيح. وبالنسبة للشق الثاني من السؤال، فإن تجربتي في رئاسة لجنة جائزة المسابقة العالمية للرواية العربية البوكر- الدورة الثالثة-، لها وجهها المشرق.
وذلك في كونها ألزمتني بقراءة النتاج الروائي العربي خلال عام كامل، عبر قراءة (118) رواية عربية من عمــــوم أقطـــار الوطن العربي، كما أخذتني إلى تجربة مهمة وغنية خضت معها في مجال تحكيم الجوائز العربية. وفي المقابل، لها وجهها الآخر الذي كشف لي بعض أمراض الساحة الروائية العربية، وفي قرارة نفسي أرى أننـــي كسبت معها، على أكـــثر من صعيد، سواء في القـــراءة أو في تجربة التحكيـم أو في كشف حقيقة الآخر!
المؤرخ الأهم
هل توافق على أن الرواية الحديثة أصبحت، اليوم، شريكاً لوكالات الأنباء في صناعة الحدث، مع اختلافهما في عامل الزمن فقط.. كيف تفسر هذا المعطى؟
إن ما يميّز الإبداع عن المادة الصحافية أو الإعلامية، هو كونه يكتب الحدث، بينما الصحافة والإعلام تكتب عن الحدث وتقدمه، وشتان ما بين الحالتين، بين كتابة وخلق وإبداع حدث يبز حدث الحياة، وبين الاكتفاء بالتفرج ونقل حدث ما والتعليق عليه.
الرواية العربية اليوم أصبحت المؤرخ الأهم للحدث العربي الدائر، وإذا كان كتاب التاريخ يجعل من الحدث والقائد بطلاً، فإن الرواية تجعل من الإنسان، الإنسان العادي المهمش تحديداً، بطلاً للحياة. وبالتالي فإنني لا أوافق على مقولة ان الرواية شريك لوكالات الأنباء.
الرواية حياة مجاورة لحياة الواقع، ولأنها كذلك فإنها تعطي الإنسان القدرة على عبور مأزق الحياة، وتعينه على تحمل قسوة محيطه وحياته الخاصة، بينما يعمل الإعلام في معظمه على زيادة ضغوطات الحياة على الإنسان، عبر نقله لمصائب وجنون العنف الوحشي والقتل والدم.

