( وصفتي الشبابية هي العمل كثيرا، أن أمتلك مشروعا مؤجلا دائما، فقد أنهيت للتو كتابا بعنوان" فيديريكو في شرفته"، لكن أصبح لدي كتاب آخر بعنوان " رقصة المئوية"، والذي بدأت كتابته يوم الاثنين في المكسيك).. على هذا النحو، جاء مضمون تلخيص الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس لقناعاته ورؤيته في الحياة، في حوار له مع صحيفة "الباييس" الاسبانية، في العاصمة الارجنتينية، بوينس ايريس، قبل أن يرحل عن دنيانا، اخيرا، عن عمر ناهز ال83 عاما.

 

أجرت الصحيفة المذكورة هذا الحوار مع كارلوس فوينتيس، مطلع مايو الجاري، حين سافر إلى العاصمة الأرجنتينية، بوينس ايريس، لحضور معرض الكتاب هناك، وكان قد انتهى للتو من تسليم كتاب لدار النشر التي يتعامل معها، وكذا كان لديه مشروع مؤلف اخر، كان يعتمل في ذهنه.. وطالما اتسم فوينتيس بانه دائم الحركة والنشاط..

 وكذا استمر بنشاطه وحركته الدائمة والفاعلة، فكان يذهب من جلسة الغداء بعد ان تمتد حنى ساعات الليل، إلى جلسة اخرى ليلية:"سهرة". ووقع خلال تلك الرحلة الى بوينس ايريس، نسخا من كتبه، طوال 3 ساعات، كما استقبل آلاف الصحافيين، الواحد تلو الآخر، وأجاب عن مئات الأسئلة، بلا تردد او تأخير، ومن دون أن يشك باسم واحد ولا تاريخ. وكذلك واصل فوينتيس عامه الـ83، مرتحلا بين أميركا وأوروبا، دون كلل او ملل، وكان سر هذا مرتبطا، إلى حد كبير، بشغفه في الكتابة.

 

طقوس

ألا يرعبك فراغ الصفحة البيضاء؟

ليس لدي أي مخاوف أدبية. أدركت على نحو جيد جدا، ودائما، ما أريد فعله، وأنا أستيقظ وأفعله. أستيقظ في الصباح الباكر، وعند السابعة والثامنة، أكون منهمكا في الكتابة. فحينها اكون قد جمعت ما يلزمني من ملاحظات وبدأت الكتابة فعلا، وهكذا أصبح لدي الكثير من الأسباب لمواصلة العيش، بين كتبي وزوجتي وأصدقائي وأحبابي.

ألا تعتقد أن مسألة مرور السنين لا تجعل الانسان أكثر حكمة دائما وبالضرورة، وإنما أكثر بلاهة، ذلك كلما شحذ نفسه بقناعاته القديمة؟

يتوقف الامر على الشخص المعني.. شخصيا، أنا صديق مقرب من جان دانييل، مدير تحرير " نوفيل أوبسيرفاتور". وهو رجل أكمل منذ وقت قريب، 91 عاما من عمره، وهو أكثر اشراقا منك ومني معا. ونادين غورديمير تبلغ من العمر 90 عاما ونيف.

ولويس رينير، الممثل الذي ألتقيه كثيرا في لندن، تجاوز المائة عام بسنتين( 102 سنة)، وهو يذهب معي إلى السهرات، ويضع قبعة وتجده دذائما، سعيدا بالحياة. إذا استطيع القول انه ليست هناك من معايير لهذا الامر.

 

ذكريات

شوارع بوينس أيريس تذكر كارلوس فوينتس بشبابه الذي أمضاه بين الضحك واللعب، كما حدث أمس، في مأمن من مظاهر الحنين إلى الماضي...

عايشت بوينس أيريس وعشت فيها كثيرا، لأن أبي وصل للعمل مستشارا للسفارة المكسيكية فيها، عام 1943. وبما أن وزير التربية فيها انذاك، كان هوغو واست، فإن التعليم الموفر كان فاشيا. وحينها قلت لوالدي:" أنظر، أنا قادم من المدرسة العامة في واشنطن، ولا أطيق هذا".

وقال لي أبي حينها:" معك كل الحق، عمرك 15 عاما، كرس نفسك للتنزه". وذلك ما فعلته. وأعجبت بالفرقة الموسيقية " أنيبال ترويلو" وتتبعتها في كل الأرجاء، بينما غذتني مكتبة " أتينيو" بالأدب الأرجنتيني. وكذلك أحببت جارة لي كان عمرها ضعف عمري. كان عمري 15 عاما، وهي في ال 30 من العمر. وعندما كنت أعود إلى المدينة كان يراودني دائما شعور بأني أستعيد شبابي، وبأني أعود إلى الـ15. وأتساءل أين هي الفرنسية الصغيرة التي تسكن قبالة بيتنا؟

كيف ترى المدينة حاليا؟

تغيرت قليلا جدا، إنها مدينة مطابقة لنفسها. كانت مدينة شيدت في اللحظة التي بلغت فيها الثروة الحيوانية والزراعية أوجها، من فترة عهد دومينغو إف سارميينتو وحتى عام 1940. ولكنها لا تزال تحوي الجادات الكبيرة كما هي، والفنادق الكبيرة فيها بقيت على حالها. بينما المكسيك مدينة أقدم، مدينة هندية أولا ومن ثم مدينة كبيرة ومستعمرة. لكن هذه كانت قرية عام 1820.

وشهدت قفزة كبيرة وتحولت إلى بوينس ايريس، التي كانت المدينة الأكثر جاذبية وحداثة في أميركا اللاتينية. خلال تلك السنوات، كان الأرجنتينيون يزدرون باقي دول أميركا اللاتينية ومدنها، فكان البرازيليون بالنسية لهم، قرودا، والمكسيكيون مسلحين، والآن أصبحنا متساوين جميعا.

 

الكاتب مستمعا

هل ترقص رقصة التانغو؟

أرقصها على نحو جيد جدا، كنا في سهرة في مونتفيديو، في حفلة رئاسية. ورقصت فيها مع زوجتي، ومثّلت المكسيك بفضل التانغو.

كاتب يحظى بمعاملة رئيس دولة تقريبا.. كيف تدبر أمورك وتستمع ؟

يتعين على الكاتب أن يستمع، لأنه إذا لم يفعل، فإنه لا يمكن أن يعرف كيف يتكلم الناس. لقد أمضيت ليلة البارحة، مثلا، مدة ساعتين أو ثلاثة ساعات وأنا أوقع الكتب في المعرض. ولكنني أمضيتها، في المقام الأول، كي أستمع للناس وكي أرى ما الذي يفكرون به، فضلا عن أني أطرح عليهم أسئلة كثيرة.

 

حوار مع نيتشة

عم يتحدث كتابك الأخير، وايضا كتابك الذي تهم في الاشتغال عليه؟

في الكتاب الذي أنهيته: " فيديركو في شرفته"، يظهر نيتشه وقد دبت به الحياة في شرفة منزل، عند الساعة الخامسة صباحا، وهنا أنا أستهل معه حوارا. وأما الكتاب الذي سأبدأ بكتابته" رقصة المئوية"، فإنه يتعلق بثلاثية من العصر الرومانسي.

ويغطي الفترة الممتدة من احتفالية مئوية الاستقلال في سبتمبر 1910، التي ينظمها ( في الكتاب)بورفيريو دياز، حتى احتفالية نهاية المئوية في عام 1920، التي ينظمها ألفارو أوبريغون مع خوسيه فاسكونسيلوس، بحيث يغطي الكتاب، فترة عشر سنوات من حياة المكسيك، وقد أنجزت فصولا كثيرة منه. ولدي الكثير من الملاحظات والشخصيات. وثمة امرأة فيه، تهمني كثيرا، لا تريد أن تقول شيئا عن ماضيها وتبدأ تكتشف الأمور تدريجيا إلى أن تصل إلى البحر وتحرر نفسها.

هل يجذبك شيء في المشاركة في امر ما مع مطلع هذا القرن؟

تسحرني التغييرات التي نعيشها. من كان يتوقع ان التغييرات كانت ستبدأ من شمال أفريقيا، ومن هناك راحت تتمدد إلى جزء لا بأس به من أوروبا وإلى الولايات المتحدة، حيث يقول لي الكثير من طلابي:" أنا دكتور ولا أجد عملا". أو" أبي ارتقى إلى الطبقة الوسطى، وأنا اشعر بأني أهبط إلى الطبقة العاملة". في أميركا اللاتينية ثمة تغييرات كبيرة أيضا، وذلك رغم الحفاظ على نوع من الاستقرار. وهذا بينما كانت المشاكل في السابق تبدأ في أميركا اللاتينية، في حين يبدو أنها ستصل الآن إلى أميركا اللاتينية في عالم لا نعلم ما الذي نسميه.

إذا قال المرء لدانتي:" ما الذي تشعر به وأنت في عز العصور الوسطى؟"، فإنه ربما سيرد :" وما هي العصور الوسطى؟". ولذلك نحن لا نستطيع تسمية هذه المرحلة، ولكننا نشعر بأن كل شيء يتغير. عصر النهضة كان يدرك أنه كان عصر النهضة، ولكن العصور الوسطى لم تكن تعلم أنها كانت وسطى.

 

ثورة المراة نصر للانسانية

كيف تتدبر أمورك مع الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي؟

أنا، وللان، استخدم الفاكس، ولا اعرف استخدام تلك التقنيات الجديدة. أكتب بخط يدي على صفحة بيضاء بقلم حبر، وأصحح على الصفحة المقابلة. بينما تقوم زوجتي باطلاعي على المستجدات. وكنت أقول لنفسي سابقا، سأذهب إلى الانسيكلوبيديا البريطانية للبحث، والآن تقول لي زوجتي، لا تتعب نفسك، فكل شيء موجود هنا.

هل تعتبر أن العقود الأخيرة شهدت نوعا من الثورة الصامتة من جانب النساء؟

كانت ثورة صاخبة وليس صامتة، لكنها ليست مشكلة كونها بدأت اليوم، فثورة المرأة نصر للإنسانية جمعاء وليس للنساء فقط.

ماذا عن فترة المد الأدبي في أميركا اللاتينية، وذكريات جيلك وأصدقائك من كتاب ذلك الزمن؟

الجميل أننا كنا جميعا أصدقاء للغاية، وهناك صورة بمناسبة حلول عام جديد في برشلونة، نظهر فيها أنا ودانوسو وغابرييل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا. الجميع في عناق، تلك لحظة جميلة جدا، أتذكر أن تلك اللحظة كانت تنطوي على روح الأخوة بين الكتاب. انه جيل أراد تغيير الأدب الأميركي اللاتيني.

وقد فعل وكان له ذلك. وعلى الرغم من أن الصداقات انتهت، الا ان الأدب ازدهر وبجودة عظيمة. ولكن تلك المرحلة انطوت كذلك على قرار بأن تظهر فيها: " مدينة الكلاب" و" مائة عام من العزلة" و" موت أرتيميو كروز" و" التتويج".. إنها مثّلت لحظة فوران وتجديد عظيمة جدا.

 

 

 

 

 

في سطور

 

يشكل كارلوس فوينتيس، أحد الدعائم المركزية المكونة للمد الأدبي في أميركا اللاتينية. كما تصدر اسمه القائمة الطويلة للكتاب الذين استحقوا جائزة نوبل ولم يحصلوا عليها، ولكنه فاز بجائزة سيرفانتيس عام 1987. وايضا بجائزة "أمير أستورياس" في عام 1994. وأصدر روايته الأولى " المنطقة الأكثر شفافية" عام 1958. وأتبعها بعشرات الكتب والحكايات والأبحاث والروايات والأعمال المسرحية والسيناريوهات، من بينها" هالة"،" تغير الملة".

وولد فوينتيس في 11 نوفمبر 1928 في بنما ،لوالدين دبلوماسيين، وعاش طفولته في عدة بلدان حول العالم، بما فيها البرازيل والولايات المتحدة وتشيلي والاكوادور. وذلك بعد أن حصل على إجازة في المحاماة من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك وإجازة في الاقتصاد من معهد الدراسات الدولية العليا في جنيف.

واختار مهنة والده، فشغل منصب سفير المكسيك في باريس، ومن ثم في لندن وغيرها من العواصم. درّس فوينتيس في جامعات هارفرد وكامبريدج وبرينستون وكولومبيا، وحصل على شهادات دكتوراه فخرية من عدة جامعات حول العالم.