الناقد والمفكر الفلسطيني دكتور فيصل دراج، علامة لا يمكن تجاهلها في ساحة النقد العربية. ومؤلفاته في هذا الميدان الحيوي، باتت تشكل مرجعية حقيقية في الأوساط الأدبية والمعرفية، ولكل دارس لمناهج النقد الأدبي والروائي.

 

في حوار أجراه "مسارات" مع الدكتور فيصل دراج ، الفائز، أخيرا، بجائزة مؤسسة العويس الثقافية للدراسات الأدبية والنقد - الدورة الثانية عشرة، سلط الأكاديمي الفلسطيني، الضوء على مجموعة من القضايا المحورية، ومن أبرزها مسألة النقد الأدبي، التي تتطلب الابتعاد قدر الإمكان، عن أي منهج لممارستها برأيه، وحالة الرواية بوصفها فنا كونيا. كما يوضح موقفه من مسألة علاقة المثقف بالسلطة، وكذلك أزمة المثقف والدور الذي يتعين عليه أن يلعبه في المجتمع.

هل هناك منهج أو مناهج للنقد الأدبي؟

المنهج هو الابتعاد، قدر الإمكان، عن ما يدعى منهجا، ولو افترضنا بأن هناك منهجا، وتقوم بتطبيقه على مجموعة نصوص، فإنك تقوم بعملية تزوير معرفية. الفكرة الأساسية لدي، هي أن النصوص الأدبية الكبيرة ينبغي أن أعترف بها كعمل مستقل بذاته وله ملامح معينة، وبالتالي أتحاور معه وأصل بالنهاية إلى جواب مثبت.

حيث من السهل أن أقول اني اشتققت كثيرا من لوكش وباخ وبرويد وتدورو. إلا أن التعامل مع الرواية العادية، يفترض معرفة تاريخ الثقافة الاجتماعي، ويفترض معرفة مفهوم النظريات لإقامة هذا الحوار بين تشكيلة قاسية وتشكيلة نقدية، بما يؤدي إلى مفاهيم نقدية، وبالتالي ليس هناك منهج، بل بحث عن منهج.

 

معيار وحقيقة

ما المنهج النقدي الذي يتبعه فيصل دراج في نقد الرواية ؟

المنهج هو الابتعاد عن المنهج، بقدر ما هو ممكن، لأنك حين تقول هناك منهج، فهناك نوع من التسلط نسبياً أن تفترض أولا، الواقع ثابت ثم تأتي بجميع النصوص وتطبق عليها هذا المنهج. وهذا شيء غير موضوعي، وما يتفق مع هذا المنهج، نص جيد، وما لا يتفق معه هو نص سيء.

هل هناك رواية عربية ذات ملامح مشتركة؟

طبعا هناك رواية عربية منذ عام 1955، وسماتها المشتركة هي الكتابة باللغة العربية، ولو كان هناك سمات مشتركة، لكان هناك رواية جوهرية تتفرع عنها مجموعة روايات.

الرواية فن كوني، وخصوصيته تكمن في أنه يكتب بلغة بعينها، ولكن كلما ارتقت الرواية تخف عن خصوصيتها باستثناء اللغة.

وهناك مبدعون في تاريخ الرواية العربية في مجتمع أخطأ حداثته، ولكن دون أن يدفعنا ذلك للقول انها رواية عربية، لأن الرواية العربية غريبة عن مجتمعنا.

أزمة وأسباب وتغرب

أين حركة النقد الأدبي من الحركة الأدبية في الحالة العربية؟

حينما أجد كتابا كبيرا ساهم فيه أكثر من ثمانين ناقدا عربيا، ولا أجد محمد مندور ولا طه حسين ولا يحيى حقي. بل أجد تدورو وبرويد، فهناك خلل في التعامل مع النقد. إن من يريد أن ينقد ينبغي أن يعرف موروثه النقدي الخاص به، ثم يجتهد في أخذ شيء ثالث، من لا يعرف يحيى حقي ويعرف تودورو، ليس له أي معنى.

لذلك فإن أزمة نقد الأدب العربي، الانبهار بالخارج والاستخفاف بكل ما هو وطني. هذه النقطة الأولى وهي التغرب، أما في ما يتعلق بالنقد الأدبي بوصفه علما، فهناك محصلة من المعارف عندما تطبق على النص الأدبي يسميها الآخرون نقدا. الانطلاق غالبا من الفلسفة، تروجيلو كاشكاي هو فيلسوف ومارس النقد الأدبي، وتودورو عندما اكتشف أنه يقوم بنقد أدبي، تخلى عنه. وباخ هو أيضا فيلسوف.

ولا يوجد شيء اسمه نقد أدبي من دون منظور شخصي، وكذلك علم اللغة، والذي يمارس بدوره في العالم العربي، بصيغة فقر معرفي تام.

هناك مثقفون يفاضلون بين الواقع الحالي في دول الربيع العربي، والأنظمة القائمة فيها والتخوف من وصول تيارات سلفية إلى السلطة، ما رأيك في هذه المفاضلة؟

نظرا للركود الآثم في العالم العربي، منذ خمسين عاما، والذي لم يفض إلا إلى جملة من الكوارث والى انحدار الأمة، فانني أعتقد أن ما هو قائم الآن، ومن دون النظر إلى آفاقه، هو شيء إيجابي جدا، وينبغي أن نرحب به. بالنسبة إلى القوى السلفية، فهذا سؤال مريض وغير نزيه، فهذه القوى السلفية أنتجتها هذه الأنظمة.

قبل عام1967، لم يكن هناك ذلك الفيض الهائل مما يدعى بالقوى السلفية.. ان هذه الانظمة قامت بهندسة المجتمع، بحيث ينتج الحد الأعلى من القوى السلفية، وبحيث يؤدي أيضاً إلى استئصال كل ما له علاقة بالعقلانية والديمقراطية والعدل والإدراك والحس السليم، وبالتالي، فإن القوى السلفية هي المنتج لهذه الانظمة القائمة، وكلما استمرت ازداد هذا الإنتاج. وأعتقد أن زوال هذه الانظمة التي أنتجت هذه القوى حتى تتحالف معها، سيؤدي شيئاً فشيئاً، إلى زوال القوى الظلامية.

إن ما تدعى بالمعارضة الاسلامية في مصر، لم تكن معارضة على الاطلاق، وكان هناك تحالف مستمر بين القوى الدينية بجميع أطيافها، مع نظامي السادات ومبارك. وعلى فرض أن هناك قوى إسلامية، فهي جزء من هذا المجتمع، ويحق لها أيضاً أن تشارك في الحكم.

ما مرد تذرع هؤلاء المثقفين بالمخاوف من القوى السلفية، واستخدام هذه المخاوف سلاحا في وجه قوى التغيير، فكل ما كتبه أدونيس بعد الربيع العربي يعبر فيه عن هذا التخوف ويضعه في واجهة الأحداث؟

هو نوع من التغيير الزائف، وكل انسان له الحق في أن يكون ظلاميا أو معاديا للظلامية، ليس لي، أنا فيصل دراج، أن أكون مرجعا وحيدا في العالم. وأقول ان موقفي هو الصحيح، وأن كل ظلامي مصيره إلى جهنم، وذلك مثلما هناك حق لي، أن أدافع عن طه حسين وعن العقلانية وعن فلسطين.. وعن جبرا إبراهيم جبرا، فهناك إنسان اختار أن يكون مرشده احدى الشخصيات الجليلة في تاريخنا العربي والاسلامي، وهذا خياره. الثابت هو أنه هناك نوع من الحقوق المتساوية بين البشر، ولكن ما يقال حالياً بين المثقفين، هو ليس تخوف من الظلامية، ذلك طبعا لأن هذه الانظمة المستبدة هي أعلى درجات الظلامية .

. إفراغ طاقات المجتمع العربي منذ خمسين عاما، هو أعلى درجات الظلامية. والتخلي الكامل عن الشعب الفلسطيني هو أعلى درجات الظلامية. أن لا يكون هناك جامعة عربية وحيدة معترف بها.. أعلى درجات الظلامية، أن لا ينتج العالم العربي شيئا من المنتوج العلمي .. أعلى درجات الظلامية. أعتقد أن بعض المثقفين المترفين يخطئون حين يرون أن التنوير هو في ان يتجولوا كما يريدون، وذلك من دون أن ينظروا إلى المسائل الاجتماعية والقومية.

فهذا - برأيي- كلام لا معنى له. كانت هناك في مصر خلال عهد مبارك، سلعة الدفاع عن التنوير وجهود الاستنارة، وكان من يريد أن يدافع عن التنوير وجهود الاستنارة، ينبغي له أن يندد بهذه الأنظمة التي تجعل المواطن يأكل أقل ويشرب أقل ويقرأ أقل، وإن لم يفعل ففكره هو أعلى درجات الظلامية.

يشير إدوارد سعيد إلى انتهازية المثقف في علاقته بالسلطة، كيف تنظر إلى هذه العلاقة؟

موقف إدوارد سعيد من هذه القضية، وغيره من المثقفين، معروف، لكن إذا ذهبنا إلى خارج دائرة المثقفين السياحيين الذين همهم الأول، الدفاع عن شهرتهم الذاتية، نجد أن هناك الكثير من المثقفين العرب يعرفون كلياً ما يجري، وأعتقد أن الأسوأ فيهم، هو أكثرهم شهرة ونجومية. إن المثقف انتقل عندنا، وبعد ترويض طويل، من الخطاب السياسي الواضح الأهداف، إلى خطاب ثقافي عام لا ينقصه الالتباس، وبهذا المعنى، يبدو ظاهريا بأنه ينقد ما هو موجود، ولكنه عملياً لا ينقد شيئاً، بل يبارك الأنظمة.

المثقف بين الماضي والتاريخ. كيف تنظر إلى التاريخ ارتباطا بمفردات الواقع المعاش؟

العودة إلى التاريخ تعني أن يكون هناك مثقف له مشروع، فعندما تقول انه هناك تاريخ، تقوم بنقد الحاضر وتبين ما هو سلبي فيه. ولماذا تدعو إلى تجاوزه نتيجة اتكائه على معطيات تاريخية سابقة، ومن ثم تضع رؤية لتغيير المجتمع. عندما تقدم رؤية يكون لك علاقة بالتاريخ.

وأما عندما نتكلم عن التنوير والظلامية والقوى الفاسدة، فهذا كلام عام ليس له علاقة بالتاريخ، إن ما له علاقة بالتاريخ هو أن ترفض سلطة سياسية قائمة، ومن ثم تقدم بديلا سياسيا آخر. ومن أجل ذلك، قال إدوارد سعيد بمواجهة السلطة بالحق، لم يكن يتكلم عن التنوير والظلام والابداع والابتكار.

وإنما عن السلطة والحق. العلاقة بالتاريخ في العالم العربي مثل القطار بالنسبة للحضارة البشرية. وهؤلاء المثقفون لا يريدون أن يقولوا ان المجتمع العربي فاته القطار، لذلك يحوّرون الأمور الأساسية إلى قضايا جزئية، مثل الظلامية والابداع والابتكار.. الأساسي في القول هو أن نقول ان المجتمع العربي حالياً، هو خارج التاريخ.

وان هذه الانظمة القائمة لعبت دورا كبيرا في إخراجه من التاريخ، ولإعادته إلى الساحة، لابد من نضال شعبي طويل الأمد يسقط الانظمة المستبدة، ويقدم مشروعاً وطنياً ديمقراطياً بديلا عن هذه الانظمة التي لا علاقة لها بالتاريخ، بل إنها فاشية مستبدة مخربة لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالقوانين. إدوارد سعيد دعا إلى مواجهة السلطة بالحق وليس بالظلامية، لكن أن نمالئ السلطة باسم تحرير فلسطين وباسم معاداة الامبريالية، فهذا حديث فارغ، المطلوب هو اقامة مجتمع يحقق فيه المواطن حقوقه في التعليم والتربية والطعام والشراب واللباس.

من دون كلمة مواطن أي حديث لمثقف لا معنى له، حيث يجب أن ينطلق كل شي ء من فكرة المواطنة، أما بعض الأنظمة العربية فلا علاقة له بكل ذلك، هل القذافي كان تنويريا؟ وهل كان مبارك كذلك؟ بالطبع لا، هذا ما يقوله المثقف السلطوي، فهناك مثقفون يعملون للسلطة وأصبحوا أثرياء من تجارة التنوير، وهناك اتجار بفلسطين واتجار بالتنوير واتجار بالديمقراطية.

 

 

 

 

في سطور

 

ولد الدكتور فيصل دراج، في بلدة الجاعونة الفلسطينية، في عام 1943. حصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة دمشق. وحاصل على دكتوراه في الفلسفة من فرنسا. عمل في مجلة "شؤون فلسطينية" التابعة لمركز الأبحاث الفلسطينية. وشارك في إصدار سلسلة "الفكر العربي"_ (1977-1982). وعمل مديرا لقسم الأبحاث والدراسات في المركز العربي للدراسات الاستراتيجية 1996 -2002،.

وأستاذا في المعهد العالي للدراسات المسرحية في جامعة دمشق، وهو محكم في العديد من الجوائز العربية أصدر دورية وشهادات مع الراحلين عبدالرحمن منيف وسعد الله ونوس. وأشرف بالتعاون مع جمال باروت، على إصدار كتاب "مصائر الحزب السياسي في العالم العربي"، وايضا على ترجمة كتاب "بؤس العالم" لبيير بورديو، في ثلاثة أجزاء، وترجم كتاب كلود لوفور "التعقيد" عام 2007.