"وجهان لعملة واحدة".. هذا مجمل ما اتفق عليه عدد من المثقفين في حديثهم عن الشللية في مجالات الثقافة والابداع، حيث إن لكل شي ء جانبين،برأيهم أحدهما ظاهر، والآخر غير ظاهر أو ربما يتعمد البعض إخفاءه لتحقيق هدف يرضي رغباته، أو لأنه الطريق الأصعب الذي يحتاج مزيدا من الجهد، أكثر من غيره. ولكن إلى أي مدى يعود الوجه الظاهر بالنفع، أم أن ضرره أكثر من نفعه؟ وأيضا، ما الذي أدى إلى إخفاء الوجه الآخر للشللية؟ وقبل كل ذلك، ما مدى وجود الشللية في الحياة الثقافية في الوطن العربي؟
بداية، يؤكد الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع، أن الشللية عموما، تُعلم الكثير من الصفات السلبية، مثل: التبعية، الخضوع، الاستسلام، الكسل، الاعتماد على الآخر، ضعف الشخصية. وأيضا عدم القدرة على اتخاذ القرار، معللاً ذلك بأنها تمنح الأشخاص المنتمين إليها: "لقمة العيش والرضا والسعادة". وأيضا، الإحباط والاكتئاب والحزن. ويشير إلى أن رتم حياة هؤلاء الأشخاص، يسير في تصاعد وتنازل وفقًا لرئيس الشلة، الذي يمنحهم كل شيء وفقًا لأهوائه.
كما يوضح الدكتور أحمد زايد، أن العلاقات الموضوعية لن تسمح بذلك أبدًا، فالشخصية الحرة لن ترضى بالشللية على الإطلاق؛ وذلك لأنها ترفض التعلق بأهداب الآخرين؛ لأنها أكثر قوة في كل شيء. ويضيف: "على الرغم من أن الشللية تمنحك حميمية جزئية بيدها اليمنى، لكنها تأخذ منك باليسرى، شخصيتك واستقلاليتك، وفيها تظل كما أنت، ويظل مستواك العلمي والإبداعي راكدًا كالماء، وتبقى أنت، بشهادة الكثيرين، شخصية انتهازية متسلقة".
ضد الآخر
يرى الروائي محمد علي إبراهيم، ان الشللية مضرة ولا تفيد الإبداع؛ ذلك لأنها ترى الأدب بعين واحدة، على عكس رؤية الأدب بزوايا متعددة، ورؤى مختلفة، حيث يمكن إثراء الأدب بالحوار بين هذه الأنماط وبعضها الآخر.
ويلفت إبراهيم إلى انه، وعلى سبيل المثال، عندما تم كتابة قصيدة التفعيلة، رفضها الكلاسيكيون الذين يكتبون الشعر البيتي، ثم ترسخت عندما جاءت القصيدة النثرية، من تيارات شتى أغلبها أوروبي، فنفاها كثير من الأدباء، مؤكدًا على ضرورة رفض فكرة النفي المطلق، والنظر إلى الأدب من منظور إنساني، يتم الاستفادة منه في كل شيء، ويخضع لواقعنا الذي نعيشه وعاداتنا وتقاليدنا وقيمنا الثقافية العميقة.
ويبين إبراهيم ان عيوب الشللية أكثر من مميزاتها، معللاً ذلك بأنها تسير في اتجاه معين يحجب الرؤية عن هذه المجموعة لترى العالم على حقيقته، إلى جانب أنها توفر لنفسها ومجموعتها فقط مكانة، ومن الممكن، أن يكون هناك شخص مبدع وتم لفظه؛ ذلك لأنه لا يتبع الشللية، ولكن هو مع المجموعات الأدبية التي تفتح صدرها لأي مبدع.
تحديد الهدف
يرفض المبدع محمد علي إبراهيم، الشللية. ويشرح وجهة نظره في هذا الصدد: "أنا ضد الشللية، لكن مع العصبة، حيث يلتحم فيها الأشخاص كالحزمة حتى تقوى، ولا تحارب أحدًا، أما الشللية فتكون ضد الآخر". ويوضح أنه إذا كان للشللية ميزة، فهي أن المنتمين إليها يقومون بتشكيل شيء خاص بالأدب.
ويضيف: "إن الاهتمام بهذا في حد ذاته، هو ميزة، ففي الوقت الذي أصبح فيه الأدب على الهامش الآن، يصبح المبدعون اصحاب مسؤولية في الارتقاء بالعمل الإبداعي، وفي النهاية، فإن هدف كل شلة هو الذي يحدد، ما إذا كانت مفيدة أم مضرة".
نوعان
من جهته، يشدد محمد الغيطي، رئيس تحرير مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، على ضرورة التفريق بين نوعين من الشللية؛ ذلك لأنها ليست في مجملها مضرة، وليست كلها نافع، وليست قاصرة فقط على الشعر أو الأدب، بل أيضا توجد في الفن والغناء والسينما والعلم، وفي كافة المجالات، فقد تكون هناك- برأيه- شلة مكونة من عدة أفراد، دخل أحدهم ليأخذ حق الغير، سواء في الشهرة أو الإبداع أو الحقوق.
وهذا النوع منتشر بشكل كبير في دول العالم الثالث، ومعظم الدول العربية، والدول النامية بشكل عام. ويتابع: "إن النوع الآخر هو الشللية؛ بمعنى فريق العمل الجماعي، إذ يكون كل عنصر فعالا، ويكمل الآخر في انسجام وتناغم فكري وإبداعي، وهناك نماذج عديدة لذلك، مثل: جماعة (أبولو) التي غيرت الشعر العربي، وهي إحدى مدارس الأدب العربي الحديث المهمة، التي أسسها الشاعر الكبير أحمد زكي أبو شادي، وضمت شعراء الوجدان في مصر والعالم العربي.
وكان من روادها: إبراهيم ناجي، علي محمود طه، علي العناني، كامل كيلاني، محمود عماد، وجميلة العلايلي. وترجع تسميتها إلى الإله الإغريقي أبولو، الذي يرمز إلى التنمية الحضارية وحب الفلسفة، وإقرار المبادئ الدينية والخلقية، وتميزت هذه المدرسة بالرومانسية الحزينة التي تنتهي بالفراق أو الموت؛ نتيجة اليأس في الحياة والعجز الاقتصادي والتصدي للواقع...".
ويستمر الغيطي في تفصيل وشرح، سمات هذه الظاهرة: "ظهرت الشللية في الفن والسينما، بشكل كبير، في جيل الستينات من القرن الماضي، مثل: خيري بشارة، ومحمد خان، وأيضًا أم كلثوم، مع كل من القصبجي وأحمد رامي والسنباطي والموجي. وجميعهم يمثلون مجموعات وجماعات، قدمت فنًا راقيًا أصيلاً، أفرز إبداعات، سواء فكرية أو سياسية أو فنية وثقافية، والأهم من كل ذلك، توافقهم معًا".
ولكنه يشير، في الوقت نفسه، إلى أنه قديمًا، كان هناك زخم من الجماعات الفكرية، فكان فريق العمل الجماعي الشامل التكميلي هو الشائع، ولكن اليوم اختلف الأمر كثيرًا، فالشباب انطلقوا، ورتم الحياة أصبح أسرع، وكل فرد أبى الظهور في جماعة قد تغطي عليه، إلا إذا أراد مصلحة انتمى إلى أي جماعة، وعادة ما يكون السبب مصلحة أو منفعة، أو نقص في الإبداع.
آلية واحدة
لا يجد الدكتور علي عبدالحميد، أستاذ الأدب المقارن في جامعة ويلز البريطانية، الشللية كارثة، في أي مجال من المجالات؛ لأنها- من وجهة نظره- تعني ترابط مجموعة مع بعضها البعض، تحت مسمى ما، وتحت مظلتها يجتمع الموهوبون وغير الموهوبين، فهم يدافعون عن بعضهم البعض أو من ينتمي إلى الشلة، لافتا إلى عدم وجود ما يسمى بالشللية في العصور الماضية، بل كان يوجد هناك، على سبيل المثال، شاعر ما ينتمي إلى مجموعة من المبدعين، فكان هناك الكثير من الجماعات التي تكتب بطرق مختلفة، مثل:
جماعة الديوان، وأبولو. ويتابع: "أما اليوم، فنسمع عن الشلة ولا نعلم من ينتمي إليها، أو ما هو مستواهم ولا نعلم أعمالهم، ونفاجأ بانهم منتشرون في المجتمع الثقافي، ولا نجد لهم أي صدى إبداعي، وكلهم يكتب نمطًا واحدًا من الكتابة، وهذا خطأ، فالجماعات قاموس بعضهم، وهم متشابهون ويكتبون بآلية واحدة".
دائرة مغلقة
يتفق رأي الشاعر ماجد يوسف، رئيس اللجنة الشعرية بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، مع آراء مجموعة من زملائه المبدعين، على أن ما يحكم الشللية، هو معيار العلاقات الشخصية، وليس الإبداع، حيث يجامل الجميع بعضهم البعض، ويكون القانون هو المسيطر عليهم.
ويتابع: "ان المبدع الوهمي يعرف صحافيين ونقادا على كافة المستويات، وغالبًا لا نرى داخل هذه الدائرة المغلقة المحدودة أي قيمة إبداعية تذكر، في حين أن أصحاب التجارب الإبداعية، نجدهم لا ينتمون إلى شلة".
كما يرى يوسف، انه هناك ضرورة للتفريق بين الشللية والتيارات أو الحركات، فالتيار أو الحركة، تغلب فيها القيمة الفكرية، وتعبر عن وجهة نظر، وعادة تشكل تيارًا مطلوبًا في الحياة الثقافية، وفيها يكرس الاهتمام للأدب والفن والثقافة وغيرها من المجالات، لافتا إلى أن التاريخ يذكر المدارس والتيارات الرومانسية والكلاسيكية والواقعية التي عبرت عن ذاتها، من خلال لحظات تاريخية زمنية معينة، وفرضت الاهتمام بأصحابها، سواء كانوا معروفين أو غير ذلك.
أساس العمل
وعن المجال الفني قال المؤلف يوسف عثمان، إن الشللية هي السبب الرئيسي في تراجع وضع السينما والتليفزيون؛ لأن أساس أي عمل سينمائي اليوم هو وجود شلة من المنتجين والمؤلفين والممثلين والمخرجين، الذين يجتمعون لصنع فيلم، في حين أنه قد لا يوجد أي تناغم بين جميع عناصر الفيلم وصناعه، مشيرًا إلى وجود ذلك في كل البلدان العربية.
وانتقد الفكر القائل ان نجاح شلة في عمل يعني النجاح في كل الأعمال، قائلاً: إن لكل دور معايير ومواصفات خاصة، من حيث الشكل والسن، والأداء التمثيلي، والنوع الدرامي، والانسجام بين النجوم ذاتهم وطبيعة القصة، ومدى تقبل الجمهور لهذه الشلة.وأكد عثمان أن الشللية ساهمت بدرجة كبيرة في إفساد كل المجالات بشكل عام والمجال الفني بشكل خاص؛ لأنه يغيب عنها المصداقية والموضوعية، وتعتمد بدرجة كبيرة على العلاقات الخاصة والمجاملات، وخاصة الفني؛ لأنه "مجاملاتي" من الدرجة الأولى، ويقل فيه معيار الكفاءة.وأضاف أنه من المفترض أن يسير المجال الفني على مبدأ "الدور ينادي صاحبه".
وليس الدور ينادي صحبي وزميلي في الحياة الشخصية"، فالاختيارات لابد أن تكون دائمًا متجردة من العلاقات الشخصية، ويكون الاختيار موضوعي يعتمد في المقام الأول على الموهبة.ورفض عثمان وجود صداقة إبداعية؛ لأن ذلك يسمى عصابة وليس صداقة -على حد قوله، فالذي يساهم في وجود الشللية بالأعمال الفنية هو العلاقة الجيدة التي تجمع الفنانين بوسط الصحافيين، فكل منهم يريد الآخر لمصلحته الشخصية، وينال الشهرة على حساب الآخر، وكل منهم يسعى إلى ذلك في رضا، على حساب الفن والإبداع.
