تعد زيارة ملتقى الشارقة للخط في دورته الخامسة، المقامة حاليا في ساحة الخطاطين، بمثابة رحلة للبحث في جماليات وتاريخ نشأة هذا الفن الذي يعتمد على الخط في الحضارات القديمة. وتكمن خصوصية الدورة الخامسة من هذا الملتقى، في انفتاحه على الخط وإبداعاته المتنوعة بين الأصالة والمعاصرة، إضافة إلى خطوط اللغات القديمة.

 

إن الخط هو بمثابة عمل روحي يرتقي بنفس كاتبه عبر فن تجريدي، ويقوم على اساس تشكيل الخط، مستخدما براعته ومهاراته في رسم الخط بنشاط فكري خلاق، يعتمد على الانضباط في الأسلوب التقليدي، ليعكس روحه من خلال التشكيلات الفنية والزخارف المتناهية بالدقة، مجسدا ومفصحا عن ما يجول في داخله من خلال رشاقته في مد الحروف وليونة الخط، ووصولا إلى التحرر من قواعد الخط بعد إتقانها، وكذلك ابتكار الخطاط لأسلوبه الخاص به.

وتسهم الدورة الخامسة من ملتقى الشارقة للخط، التي تستمر حتى الاول من شهر يونيو المقبل، في مد جسور الحوار الإبداعي والحضاري بين شعوب العالم في الشرق والغرب، عبر رسائل ومضامين تتأتى جلية في سياق فني قادر على مخاطبة العقل والوجدان، من خلال استعراض إبداعات 334 فنانا من أبرز الخطاطين والمبدعين، الذين عرضت أعمالهم ( يتجاوز عددها 1525 عملا فنيا)، ضمن معارض الملتقى، البالغ عددها 26 في الشارقة والمنطقة الشرقية، والتي يتركز أبرزها في ساحة الخطاطين بالمنطقة التراثية التي ضمت المعرض العام للخط الأصيل.

وفي معرض (في حب سلطان) في دار الندوة والمهداة إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، بمناسبة عودته سالما معافى من رحلته العلاجية. إضافة إلى جملة فعاليات أخرى، مثل: بيت (فن الحروفيات)، بيت (الخزف والمنحوتات العربية) المستلهم من جماليات الحرف العربي. والكثير من المعارض الفردية لعدد من الخطاطين، إلى جانب بيت المكرمين الثلاثة: حسين كوتلو (تركيا)، محمد حمام (مصر)، مهدي الجبوري (العراق).

 

رحلة الخطوط

لا بد قبل تقديم قراءة لبعض أعمال الملتقى، من تقديم لمحة عن تاريخ خطوط اللغات القديمة، والتي تتجلى في الملتقى، ابتداءً بالخط العربي الذي بدأت العناية به في حياة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ومن ثم في أيام الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، لشدة لزومه بغرض استخدامه في عدة احتياجات.

وفي كتابة الرسائل إلى الأمصار. ومع الفتوحات الإسلامية، هاجر الحرف العربي إلى حضارات أخرى أبرزها الحضارة الفارسية والعثمانية، ليزدهر كفن مميز، وليبتكر المبدعون خطوطاً جديدة، وعدة زخارف نباتية وهندسية انصهرت في بوتقة هذا الفن لتشكل هوية الفن الإسلامي. ومن أبرز الخطوط العربية: خط النسخ والثلث والديواني وجلي الديواني..والفارسي والكوفي، والرقعة والمغربي .

 

الخط الياباني

وعن تاريخ الخط الياباني وجمالياته قال الكاتب عباس يوسف في مقالة له: (يرجع تاريخ الخط الياباني إلى القرن الخامس الميلادي، حيث استخدم اليابانيون طريقة الكتابة الصينية التي بدأوا الكتابة بها، معتمدين على استخدام الحروف الصينية "كانجي"، وهي طريقة جديدة استحدثها اليابانيون لتتماشى وتتواءم ومتطلبات اللغة اليابانية.

هذه الكتابة التي تعبر عن الأصوات بالحروف تعرف باسم (كانا) وتستخدم إما بمفردها أو بدمجها مع الحروف الصينية". ويضيف: " .. وبسبب الإيمان العميق بأهمية وضرورة الانتماء. الانتماء إلى الثقافة بوصفها وطنا - وبمرور الزمن - برع الإنسان الياباني وأبدع في الكتابة بصورة جميلة وشفافة ورائعة ووصل إلى ما وصل إليه من رقي وتأصيل.

في الخط الياباني، ثمة تباين فني جميل وحلو بين الحروف المكتوبة بالحبر الأسود على مساحات الورق الأبيض، فثمة حرية خرافية مطلقة ممنوحة وموهوبة للخطاط الياباني في تعامله مع الخط، حيث الفضاء مفتوح على الكون، على الحرية لابتكار أشكاله والتفنن والإبداع في "صنع غلاظة" أحباره التي يستخدمها لأنها تهبه الحرية للتعبير عن مزاجه، وعن حالته النفسية، فالخط حالات وأوضاع».

الخط اللاتيني

ترجع نشأة الخط اللاتيني إلى القرن السادس قبل الميلاد، وهو مستمد من أبجدية الأتروتسكي ليضاف إليها، لاحقا، الحرفان الأخيران من الأبجدية الإغريقية. وكانت تكتب من اليمين إلى اليسار، وتفرع عن اللاتينية ست لغات، ومنها: اللاتينية القديمة والرومانية والإيرلندية أنكلوسكسونية واللاتينية الحديثة.

وأيضا اللغات التي تكتب بالأحرف اللاتينية. وكان الرومانيون قد اعتمدوا 23 حرفاً في أبجديتهم. وأما اللاتينية الحديثة، فضمت 52 حرفا.. بما فيها الأحرف الكبيرة والصغيرة والفواصل والأرقام العشرة الأولى. ومع انتشار الطباعة، غابت فنون الخط الغربي، بعكس الحضارات الشرقية التي يعتبر فن الخط جزءاً بارزاً من فنونها العريقة المعاصرة.

 

بيت المكرمين

اشتمل معرض بيت المكرمين في الملتقى على عدة نماذج لأعمال كل من: حسين كوتلو (تركيا)، محمد حمام (مصر)، مهدي الجبوري (العراق). وقد نال كوتلو عدة إجازات علمية في مجال الخط العربي والفن الإسلامي، وأبرزها إجازة تخصص في كل من خط الرقعة والنسخ والثلث.

وايضا إجازة متخصصة في نوع التعليق. وأنتج أعمالاً لا تحصى في مختلف أنواع الخطوط، إضافة إلى كونه مؤسس ومدير مركز الفنون الإسلامية التركية في اسطنبول منذ عام 2000. كما أنجز الكثير من المشاريع في الفن الإسلامي لأكثر من 100 جامع في العالم، ومن ضمنها جامع طوكيو في اليابان، وجامع برلين في ألمانيا.

وأما محمد حمام فتتلمذ على يد كبار الخطاطين العرب، وتشاهد كتاباته في مساجد القاهرة، إضافة إلى أعماله في مجموعة من المساجد الاخرى في الإمارات. وغيرها من الدول. وهذا طبعا، إلى جانب مجموعة من المطبوعات التراثية والتاريخية أبرزها مسند جوامع المسانيد، التي تضم حوالي 800 عنوان، مكتوبة بخط الثلث، وذلك في 15 مجلدا.

كما التقى مهد الجبوري بالخطاط هاشم البغدادي في عام 1948، ليشارك لاحقاً، في تأسيس جمعية الخطاطين العراقيين.

ومن أبرز انجازاته الخط على العملة العراقية الحالية وبطاقة الأحوال الشخصية. وقد حصل على لقب شيخ الخطاطين العراقيين، في عام 1999.

 

الاتجاه الأصيل

ضم بيت أبناء حمد بن محمد المدفع في ساحة الخطاطين بالشارقة، أعمال نخبة من أبرز الخطاطين من البلدان العربية والأجنبية، إذ يدخل الزائر إلى باحة الدار، التي تتوسطها (شجرة الحياة)، التحفة الفنية التي فازت بجائزة العمل المميز للفنانة فرح بهبهاني من الكويت.

حيث تحولت وريقات الشجرة الوارفة إلى أحرف عربية من خط (السنبلي)، لتستلهم من قصيدة للشاعر الصوفي الحلاج، الحروف الخشبية والحروف المعدنية من قصيدة لجلال الدين الرومي. وقطعت الحروف المعلقة من الفضاء بالليزر، ويبلغ ارتفاع الشجرة 3 أمتار، بقطر يبلغ طوله المترين ونصف المتر.

تبدأ الجولة في رحاب جماليات الخط في الرواق، ومن ثم منها إلى غرف البيت المتداخلة بألوانها ومضامين لوحاتها بين الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والحكم، والتي إما تقتصر على الخط الذي يتجلى فيه تناغم العلاقات التشكيلية بين تكوين الحرف وما يحيط به أو التي تجمع بين الخط والزخرفة.

ومن أبرز الأعمال في الخط، لوحة للخطاط المصري أحمد الهواري كتب عليها إحدى الآيات القرانية، والتي خطها بالحبر البني على ورق تقليدي مقهر. وأيضا كتابة لآية (آية الكرسي) على لوحة لأحمد عبد العزيز من مصر، والتي اعتمد فيها على الخط الكوفي، ليقدم وحدة زخرفية هندسية مهمة، وكذلك لوحة لأنور الحلواني من سوريا، كتب عليها: (هو الحبيب الذي ترجى شفاعته) كتبت بخط الجلي الديواني.

وفي اللوحات التي تجمع بين الخط والزخرفة والأصالة والحداثة، تبرز أعمال الخطاط الإيراني أمير فلسفي (1959)، الذي يعتبر من أهم وأبرز أساتذة الخط العربي، خاصة في خط (نستعليق)، ويتمتع بقدرات عالية، بدءاً من الخط المنمنم إلى الخط العريض. وهو مبدع في استخدام الأسلوب التقليدي والحديث.

ومتمكن من الطراز الأول في استخدام قصبة الخط العريضة الماهرة، إلى جانب براعته في تصميم اللوحة، وتركيب حروفها، ونسبها الجمالية. وتتجلى في لوحات الخطاط المغربي بلعيد حميدي، خصوصية أسلوب الخط المغربي الذي ينسج خطوطه في مساحات دائرية وبيضاوية مزينة بالأطر والزخارف التي لها طابعها الخاص.

كما يأخذ فن المشق، مكانته بين أنواع الخطوط، مثل عمل للخطاط الإماراتي حسين الهاشمي، الحاصل على إجازة في خطي الثلث والنسخ، في عام 2003، من الخطاطين: الشيخ حسن جبلي، أحمد ضياء الدين، فؤاد باشار، داود بكتاش. كما حصل على إجازة أخرى في الطفراء والديواني الجلي والديواني، وذلك على يد كل من: البروفيسور الخطاط علي ألب أرسلان والشيخ حسن جلبي والدكتور صاواش جويك.