يسترخي الشاعر محمد علي شمس الدّين على ضفاف الجنوب اللبناني، ويكتب قصائده التي تتحول بقلمه إلى رموز وأيقونات زاخرة بالمعاني، لا يستطيع العيش من دونها، فهو يتنفس هذا الفضاء، ويجعل الآخرين يحلمون به. فهو شاعر محلي وعالمي في آن واحد، يتغنى بجبران خليل جبران، كما يتغنى بأراغون وإليوت ولوركا. عالمه الجنوبي ليس مستلاً من لبنان بل من الكون.

"مسارات" التقى الشاعر محمد علي شمس الدين، خلال زيارته إلى دبي، أخيرا، على هامش فعاليات حفل توزيع جوائز الدورة الثانية عشرة( 2010- 2011) لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية للدراسات والابتكار العلمي، حيث فاز بجائزة الشعر .

هل الجنوب جغرافيا أم روح؟

الجنوب اتجاه، وهذا ما يعنيني فيه، بكل ما يحمل من رموز. المكان بشكل أكثر تخصيصاً، المنزل، وبتخصيص التخصيص، هو أحد المقيمين في المنزل: الجد أو صوت الجد في الترتيل الكربلائي. حين كان ينشد وأنا صبي، تتشرب روحي بهذه الأناشيد.

كانوا هنا واليوم قد رحلوا/ وخلفوا في سويدا القلب نيراناً/ نذرت عليّ لأن عادوا وإن رجعوا لأزرعن طريق الطف ريحاناً.

كان هذا الرجل يرافق الولادات، ويدفن الموتى، وإذا ضاعت الغنمة، يربط عليها لسان الوحش. ويرقي الأطفال المرضى، وكان شيئاً بين الدين والسحر. هو شيخ قرية بيت ياحون. ولدت فيها في ليلة عاصفة. من يدريني ذلك؟ اكتشفت من الصبا أنني أحب عصف الرياح، فتتحرك في داخلي مع العاصفة ومع المطر، غريزة السير ضدها، عاريّ الصدر. لاحظت أمي ذلك، قالت لي: ولدت أنت في ليلة عاصفة. وكذلك ولدت حيوانات المنزل: البقرة، والحمار، والكلب. نختلط في منزلنا مع الحيوانات، ننام معاً. حياة بدائية، جنة أولى.

وأيضاً ما كتبته اليوم هو: حركة الغيوم على الأفق في ذاك المكان العالي من الأرض، أطلقت عليها سينما الكون. وهذا الشريط كله قد يكون هو الجنوب. لن أجد روحاً أخرى مثلما وضعت في أي مكان آخر، لأنني لن أعيش طفولتي وصباي مرتين، هي مرة واحدة.

 

لا شيء

.. وهل يتحكم الجنوب بقصائدك؟

في القصائد، ومنذ البدايات، كان هبوب الريح فيها أيضاً تكونات صورية للغيوم على ألق، فيها انخطاف ديني أو سحري. هناك أميز فيها أيضاً، بين حزن خفي وتشكيل مشهدي للعناصر، نضيف قراءات أولى وثانية. هذه شكّلّت لي مرجعيات صداقة إبداعية. مثلاً: في مكتبة الجد وأنا صبي قرأت الشريف الرضي والمعّري والتوحيدي باكراً.

ولولا ما كتبت لما كنت متأثراً بالمعرّي إذ شعرت أن لديه ما اسميه: ألم العقل. وهو أشد من ألم الجسد وألم النفس. ألم العقل ألم وجودي مخيف، وهو موجود في شعري، في كل الأحوال، لأنني مثلاً، ميال إلى عدمية ما، أقول: يأتي من جهة البحر، ومن جهة الصحراء. طفل بدم، أبيض بقنابل ضوء فوسفورية، بحمام أو بطباشير ويدوّن فوق اللاشيء هواجسه: لا شيء.

من "قصائد مهربة إلى آسيا" إلى "شيرازيات"، انت تسعى للاندماج بالطبيعة. يتوضح ذلك في مفردات قصائدك وقصائد أخرى مثل "الشوكة البنفسجية" و"رياح حجرية" و"يأس الوردة" وغيرها من دواوينك؟

اعتدت العيش في المنزل. لذلك يصفني البعض بأنني غير مدني أي لا أجلس في المقاهي، بل أقضي معظم أيامي في الريف. إننا ممن لم يقطعوا صلة الوصل بعناصر الطبيعة. عندي رغبة شديدة لأتربص لمفاصل الفصول ومنعطفاتها، أكمن لها، للورقة وهي تهوي على الأرض، والنهر في احتدامه، والريح في هبوبها، وأرنب صغير في حركته. أتأمل حبيبات المطر من وراء النافذة. إنها بالنسبة لي طقوس جسدية ونفسية معاً. وهي موجودة في قصائدي هي من عناصر الشعر.

لديك بعض الرموز التي لا تحيد عنها مثل: ديك الجن الحمصي، وشعراء آخرون نهلت منهم أو أصبحوا لك أدلة في سماء الشعر...

ديك الجن الحمصي لم يعجبني شعره. ولكن سيرته هي العجيبة، سيرته أسطورية. هل حدث ما يروي عن حبه لورد وغيرته وقتله إياها وحرقه لها، وصنعه لكأس من الخمر من رمادها. إنه يروي في إحدى قصائده، كيف قتلها قائلاً: "روّيت من دمها التراب وطالما روّي الهوى شفتيّ من شفتيها".

هو وحكايته، شخص أسطوري شعري حين كتب قصيدة "عودة ديك الجن إلى الأرض". وهي تصف ديوان "الشوكة البنفسجية"، إذ حلّ ديك الجن في نفسي، رافقني لمدة طويلة، وانتقل معي من بيروت إلى الجزائر. وأصبحته أو أصبحني.

ولو أردت بشيء من الدقة إن المعري يشكل في شعري مرجعية كبيرة، لا كصياغة شعرية، بل كحالة وجودية. رجل شكاك يعذبه الوجود، كما قلت لك، ألم العقل أشد من ألم النفس والجسد.. لي اختيارات، لي أصدقاء في الإبداع.

 

قناع وخطورة

ثمة أقنعة في شعرك استلهمتها من تراث أسبانيا، والغرب عموماً، مثل رامبو وغوغان. فهل أنت بحاجة إلى أقنعة للتعبير عن روح الشعر؟

المسألة بالنسبة لي إحساسي بأنني دائماً اثنان وأكثر. قبل أن ينتقل القناع إلى المسرح استعملته الشعوب البدائية في السحر. القناع شديد الخطورة لسببين. الأول: انه يستر الوجه وكل مستور مثير ورهيب.. بعض الملوك الذين لا يظهرون لرعاياهم، هم أشد وطأة من الملوك الشعبيين. فبمقدار ما تستتر السلطة بمقدار ما تكون طاغية. السحر ستر إذاً، والقناع له هذه القوة.

ثانياً: القناع تعدّد. وثالثاً: القناع حيلة. قلت لك أنا ديك الجن، وتستطيع أنت أن تتأمل في أن يكون هذا ذاك. ولكن لو نزعت القناع عن الوجه، لربما وجدت ما يثير السؤال. من هو؟ ولربما عشت حيوات كثيرة وهو ما يملي عليّ الكتابة. أقول لك كيف كتبت "شيرازيات" حين وضعت قناع حافظ الشيرازي.

كنت مدعواً إلى طهران في دعوة ثقافية من قبل وزارة الثقافة. وجدتهم هناك يمجدون حافظ الشيرازي، ويستخيرون بشعره لأنه شاعر يومياتهم. أخذت ديوانه وقرأته وتشكلت في نفسي فكرة بقيت غائرة عن النشوة الإلهية وعن الحب ووحدة العالم ووحدة النقائض، وبقيت في صدري ست أو سبع سنوات. ثم وقعت مريضاً، ودخلت المستشفى وعانيت من آلام حادة. وكنت قد نسيت حافظاً أثناء هذه الآلام، ثم استيقظ في نفسي فجأة وكتبت ديوان "شيرازيات" وأنا في المستشفى.

هل أنت نسخة من جبران أم ديك الجن أم المعري؟ أقصد من ذلك متى ينتهي الآخر، وتبدأ أنت؟

سأعطي مثالاً قبل أن أعطي كلمات مختصرة. فديوان" أناديك يا ملكي وحبيبي"، مهدى لجبران خليل جبران. إن جبران روح، والأرواح تحل في نفسي. يقول جبران في كتاب "النبي": "المصطفى الحبيب وهو جالس على تلة في مدينة أورفليس وينظر إلى البحر، بانتظار سفينته التي ستجيء".

انتهى المشهد الجبراني، وأنا أقول: "كان يجالسني فوق العشب على أكتاف مدينة/ ويجاذبني أطراف الحلم وأطراف العالم/ ينظر آناً في البحر وآونة ينظر في بحر كآبته/ فتهاجر في جفنيه حمامة وعد تظهر بعد الطوفان/ ويقول ان الله تكلم في حنجرة العصفور وصخرة الوادي/ وترنم في حنجرة الإنسان/ لا بأس قريب الله منك إذاً/ وصلاتك أعمق من هذا البحر/ وأبعد من تلك الشطآن/ فأعرف في نفسك حتى تعرف نفسك يا ملكي وحبيبي". أقول في كتابي "غرباء في مكانهم" إن الكتابة هي استئناف للكتابة. لا نص من دون أسلاف.

 

غناء السرد

هل تحولت إلى كتابة النثر في "غرباء في مكانهم"؟

"غرباء في مكانهم" مؤسس على فكرة خطيرة تتعلق بتحولات منطقة.. بيروت اسمها رأس بيروت، كتب فيها الصديق الروائي الراحل محمد عيتاني كتابه "أشياء لا تموت"، قصص قصيرة، فكرتها قائمة على الجملة التالية "ما من مدينة يملكها أهلها"، وهي تجربة لها سوابق في كتاب "الطواف" و"رياح حجرية" وحلقات العزلة. إنها كتب نثرية. النثر أكثر تركيزاً وأكثر سرداً.. يسرد مغنياً.

ما هو رأيك بقصيدة النثر؟

في شعري جديد يُضاف إلى الفنون الشعرية، ويشكل تحدياً منذ أن طرح بودلير على نفسه السؤال: هل يمكن أن يشتق من النثر قصيدة؟ وبودلير أسس على شاعر آخر صعلوك عايشه وهو غاسبار دي نوي، ولكن بودلير كان أكثر شهرة وتبنى الفكرة بشكل جيد. بودلير لم يكتب كل قصائده نثراً. مثل "أزهار الشر" وأنا أسميها "أزهار المرض" على عكس ما هو شائع. بعد ذلك توالت تجارب ناجحة أحياناً وقاتلة أحياناً أخرى. ثم الشعر العالمي من إليوت مروراً بناظم حكمت وصولاً إلى آراغون، انتقل من الوزن إلى النثر. مات ناظم حكمت.

وهو يقول: "أوصيكم بالأصول". أراغون كتب بعد مرحلة السريالية قصائد حب على الوزن "الاسكندراني" كما أن الشاعر الانجليزي . ت. س. إليوت كتب على الوزن. وكذلك محمود درويش. شخصياً أحسم الجدل بقولي: مهم جداً اشتقاق قصيدة من النثر كما فعل الماغوط. فهي مسألة لا أتردد فيها. لكن المشكلة في النصوص. للماغوط ثلاثة دواوين فقط والبقية ضعيفة.

ــ هل قصيدة النثر هي خلاص القصيدة العربية؟

لا خلاص للقصيدة العربية. هي محاولة للإنطلاق لا أكثر ولا أقل، وهي لا تزال قيد الاختبار.

 

رأي

نحن أمام ثلاث صيغ في كتابة الشعر العربي: قصيدة النثر، شعر التفعيلة، الشعر العمودي.. أين تجد نفسك؟

أجد نفسي في الأنواع الثلاثة، النظرية مربوطة في طرف القصيدة على الدوام. قصيدة نثر واحدة تغني عن مجلدات في الجدال العقيم. من يتكلمون عن سركون بولص لا يجيدون قراءة قصائده، فهو شاعر يمزج النثر بالوزن، كما هو الحال في مجموعته "الوصول إلى مدينة أين؟". إذاً سركون بولص مزيج من عودة لطفولة عراقية، وعلى صدره يريد أن يتخلص منها في خلال العودة إلى بلاد ما بين النهرين.

ــ هل تزيح قصيدة النثر الأشكال الشعرية الأخرى؟

أولاً الشعر العربي الحديث والمعاصر طائر يحلق بلا رقيب. ثانياً: ليس لدينا ناقد أو دارس قرأ العروض العربي الحديث والمعاصر، أي الأشكال الإيقاعية والموسيقية المستنبطة. ثالثاً: ومن تجربتي شخصية، فأنا ممن وجدوا بين رقاب المتناثرات طريقه. الشعر العربي كينونة خالدة.