لا أحد يسأل .. أين سعيد بوميان؟لم يرفع أحد صوته ليسأل عن صحة عبد الله المناعي، ولا ندري ما الذي حل بظاعن جمعة.. ومحمد فراشة، لماذا لم نلتق بسعيد حداد، لولب الثقافة في كلباء، أو علي الشالوبي، نجم خورفكان ومحركها الديناميكي، لماذا لا نسأل عن جمعة غريب.. أحد مؤسسي مسرح الإمارات؟ عشرات من الفنانين الذين غابوا ولم نعد نذكرهم أو نفتش عنهم، وفقدت فرقهم المسرحية دورها في البحث عنهم، وإعادتهم إلى مسارحهم والاستفادة من خبراتهم.
وفي هذا الإطار، وللبحث عن هؤلاء الذين كانوا يقفون على المسرح بقاماتهم المتميزة ومشاركتهم النوعية والذين غابوا فجأة، نتساءل: ترى هل أن هذا العصر قد غادرهم، أو أنهم يملكون رؤى أخرى لا تتناسب مع السائد من عروض مسرحية...؟ إن حكاياتهم لا تنفك تعيدهم إلى الأذهان أو قد تعيدهم إلى الوجود، وتستطيع أن تبث بهم حركة العودة إلى الخشبة، ليس بالضرورة ممثلين أو مخرجين أو فاعلين، بل على الأقل في وجودهم وتفاعلهم واحتلال موقعهم، بما يتناسب وتاريخهم.
محمد الحمر
إنه مبدع يعرفه أبناء جيله، وبشكل خاص يعرفه المخضرمون منهم، وقد يجهله الشباب الذين دخلوا المسرح، أخيراً، مع الموجات الجديدة للعروض التي تشكل خارطة اليوم المسرحية.
محمد الحمر.. أحد أقدم الأعضاء في مسرح الشارقة الوطني.. وهو فنان مخضرم في مشاركاته المسرحية.. وعاش كل السنوات التي عانى خلالها المسرح مخاضاً كبيراً.. ولم يكن يطلب مكافأة مالية بقدر ما كانت تهمه المشاركة، وليس بالضرورة أن يكون بطلاً.. إنما يكون موقعه مناسباً لطاقته وشكله ومقوماته، ولم يحقق ثروة طيلة فترة عمله في المسرح، بل كان يعيش مستفيداًمن جهده الذاتي في عمله الوظيفي.
لم يكن سهلاً لمحمد الحمر، أن يترك عمله لثلاث ساعات أو أكثر، ذلك لضرورات البروفات، ولا أذكر أنه تأخر عن موعد ما طوال فترة تجاربي معه، وكان ملتزماً بموعد البروفة، مهتماً بأيام العرض، حريصاً على وحدة العرض المسرحي، بل البنية المسرحية.
ولم يهمل عمله الأساسي الذي هو مصدر رزقه .. وهو رجل يعمل في مركز حساس جداً في الشرطة، فكان عمل هذا الرجل عجيباً جداً، خاصة في ظل ما كان يتحمله من أعباء في عمله المهني، ولكنه كان يقدم في عمله على الخشبة، جهوداً مميزة ومتفانية، طيلــــة ساعـــات مـــن الجهد والعــرق والمعاناة، ومن ذلك عمله أثنـــاء البروفات، لا بل العجيب من محمد الحمر، قدرته على التوفيـــق بيـــن العملين، وموقعــــه الحساس في الشرطة، وموقعهـــ المتميـــز على الخشبــــــة، وكذلك دوره الذي يناط به على مجمل المسؤوليـــات في مسرح الشارقــــة الوطني.
محمد الحمر في طبيعتـــه معارض، حينما يجد اعوجاجاً، حسب رأيه. وهو صريـــح في ما يحمــل من آراء أو علاقـــة إنسانية مع الآخر، وعلمته حياته العسكرية، أن يكون مستعداً أينما يكون عمله ودوره، هو لا يدعــي ثقافة عميقــة، ولكنه صاحب رأي، ولا تملك إلا أن تحترمـــه لجديته، ولواقعيته، هو فنان فطري لم يتعلم المسرح في أكاديمية أو معهد أو مدرسة، إنما امتلك التألق من خلال تميزه في الأداء، وعشقه لفن المسرح، وجديته في العمل التي جاءت جزءاً من شخصيته العسكرية.
يرتبط التاريخ الفني لمحمد الحمر، بالسنوات الأولى من عمر مسرح الشارقة الوطني، وهو بذلك يعتبر أحد رواد حركة المسرح في الإمارات، وأيضاً من المؤسسين لهذا المسرح الذي ظل في صدارة الفرق المسرحية المعطاءة.
«شمس النهار»
ولعل من أوائل المسرحيات التي لعب فيها محمد الحمر، دوراً رئيسياً، مسرحية "شمس النهار" في عام 1977، وذلك مع: الراحل صقر الرشود، عبد العزيز المنصور. وكانت هذه المسرحية من تأليــف توفيـق الحكيم، ومن إعداد عبد الله السعداوي الذي رحل هو الآخر إلى البحرين، ليشكل هناك تجربة متميزة. وقد شارك في هذه المسرحية، عدد من المسرحيين الذين أسهموا في تأسيس المسرح في الإمارات، من أمثال:
علي خميس، ماجد السويدي، غصن سالم، إبراهيم برداني، راشد السويدي، عبد الله المناعي، محمد حمدان. وكما نرى، فإن معظم هؤلاء، تركوا المسرح لأسباب مختلفة، ظلت المتابعة لهم ضعيفة وعلى استحياء، بل ان أحداً لم يذكرهم ذات يوم. تعد هذه المسرحية، باكورة المسرح الحديث، والتي عرضت في عام 1977 في الشارقة، ثم عرضت في أبوظبي أيضاً.
وهي من الأعمال الأولى لمسرح الشارقة الوطني يومها، وكان قيد التأسيس القانوني، إذ أنشئ هذا المسرح في عام 1976، باسم المسرح الوطني بالشارقة، ثم أشهر رسمياً في عام 1978، تحت اسم مسرح الشارقة الوطني، بعد دمجه مع مسرح الإمارات.
وكانت بدايـــة مسرحياتـــه بعنوان "أين الثقة" في عام 1975-1976، ثم "أرحموني يا ناس"، من تأليف وإخراج محمد حمدان في عام 1975-1976، لتأتي "شمس النهار" في عام 1977، وهي من إخراج صقر الرشود. وحضر هذه المسرحية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وعبد الله النويس وكيل وزارة الإعلام والثقافة، حينذاك.
منحة 30 ألف درهم
لمجيء صقر الرشود حكاية طريفة، فعلى ضوء انضمام عبد الرحمن الصالح إلى مسرح الشـــارقة الوطني، وكان المسرح يقدم مسرحية "هــارون الرشيد" في القرن العشرين، وعلى اثر هذه المسرحية، منحت حكومة الشارقة 30 ألف درهم لمسرح الشارقة الوطني، إذ أتاح هذا المبلغ لإدارة "مسرح الشارقة الوطني استئجار أول مقر للمسرح.
وفي الوقت نفسه، انضم الفنان عبد الله السعداوي، وأعد لهم مسرحية "شمس النهار"، فاقترح عبد الرحمن الصالح دعوة صقر الرشود لإخراجها، وسرعان ما اتصل عبد الرحمن بصقر في الكويت، من قاعة إفريقيا في الشارقة، وخلال 48 ساعة، كان صقر قد وصل إلى الإمارات ليباشر عمله في إخراج "شمس النهار"، قبل انتسابه إلى وزارة الإعلام واصطحب معه عبد العزيز المنصور مساعداً، ويقال إن صقر جاء مباشرة من المطار إلى قاعة إفريقيا لإجراء البروفات، دون الاستراحة في الفندق.
حرفي لكن نسّاء
نعود إلى محمد الحمر، والذي شارك بعد ذلك، في معظم أعمال مسرح الشارقة الوطني، ومنها دوره في مسرحية "رأس المملوك جابر"، وكان من المعروف أن الحمر، رغم اتقانه لدوره وحضوره المسرحي على الخشبة، كان ينسى بعض المقاطع، وكنا على استعداد لإسعافه من خارج الكواليس. وكان الحمر يقوم بدور الملك منكتم بن داود. وأما علي خميس فكان يلعب دور هلاوون.
وكانت أسوار بغداد على وشك أن تسقط، اثر الخلاف المستفحل بين محمد العلقمي الذي كان يلعب دوره سيف الغانم. وأما دور الخليفة، فكان يلعبه أحمد بو سالم، ولعب أحمد الجسمي دور المملوك جابر.
بدأ العرض جميلاً وانسيابياً، وطبقاً لما هو مرسوم في الخطة الإخراجية، وقد وصل إيقاع الذروة عند اتخاذ قرار احتلال بغداد وتحطيم أسوارها، وتصاعد الإيقاع عند محمد الحمر. وغضب وانتفض وأزبد وأرعد. وفي هذا الخضم، نسي حواره، وظل يصرخ: بغداد، بغداد، بغداد.
فحاولنا اسعافه من الكواليس.. إلا أنه لم يكن يسمعنا، لأنه كان منفعلاً بشكل غير معقول، ومندمجاً بدوره، حتى شعرنا أنه فعلاً الملك منكتم بن داوود، وظل يصرخ ويلطم وينتف لحيته وشعر رأسه، ثم أخذ يتمتم ببضع كلمات، فهمنا بعضها ولم نفهم ما تبقى، غير أن الجمهور صفق بحرارة لمحمد الحمر، دون أن يدرك أنه نسي دوره، إنما لإبداعه ولوصوله إلى الذروة.
كانت ليلة من ليالي العمر، وتحقق فيها أحد النجاحات الفنية لمسرح الشارقة الوطني، وللمسرح في الإمارات، وكان أحد أبطالها محمد الحمر.
وأذكر له أيضــاً، مواقف عديدة، أثنـــاء البروفـــات أو العـــروض، ومنها أنه كان يمثل دوراً متمـــيزاً اخر، إذ إنه كان يترأس فرقـــة صيد في مسرحية "طير السعد" للأطفـــال، وكــان عليه أن يصيد الطير، هــو ومجموعــة من الجنـــود المدججين بالسهام، متعــددة الأطـراف.
وكانت ابنتــــي حنان الصغيرة في السادسة من عمرها تؤدي دور طير السعد، وكان عليه أن يصطادها، وفــي إطار التمرين، أخبرته و"طير السعد"، أن يحرصا على دوران الطير ست مرات حول نفسه، في رقصة إيقاعية، وأن يدور الجنود في الاتجاه المعاكس لها. ومـــن ثم، بعد العد السادس، يهجم محمد الحمر بسلاحه المخيف، مع مجموعته، للقبض على الطير.
وفعلاً، دار الطير الـــذي تمثله الصغيرة حنان، ست مرات، ولكن لم يهجم الحمر، وتجاوز العد إلى الرقم التسعة، وأيضاً لم يهجم الحمر. ثم توقفت الطفلة حنان، وصرخت به :" يا أستاذ يا حمر لماذا لم تدخل، لقد عديت حتى التاسعة". واستلقى محمد الحمر ضاحكاً، فحملهـــــا وقبلهــا بأبوة شديدة، وقال لها :
"والله أنت أذكى مني .. أنا نسيت سامحيني يا بنتي.. والله أنت عملتني درســـاً حلواً جميــــلا ًمثلك.. يا طير السعد".
مناشدة
محمد الحمر، رجل طيب جداً، ورغم ما يبدو عليه، من كونه شخصية متعالية، ذلك بحكم عملــه أو ما يرتبط باسمه من وظيفـــة حساسة، وقد لا تعبر عن مكنون دواخله الطيبة، وكان مشهده مع طير السعد، في غايـــة التواضــع والمحبة والامتنان، هذا رغم التعب الذي كان يعانيه، لأن البروفات كانت صعبة ودقيقــة ومجهدة، ذلك إلى حد الشعور بالغثيان.
إضافة إلى جهده في عمله الصعب في الشرطة. وكذلك لأننا كنا في مسرح الشارقة الوطني أمام تحديات صعبة، لا مع الفرق المسرحية الجادة الأخــرى فحسب، وإنمـــا مع أنفسنـــا أيضاً، لذا استطاعت مسرحية "طير السعد" أن تحقق عروضاً متتالية، لمدة 42 عرضـــاً، في قاعة إفريقيا، بحضور أكثر من ألف طفل في كل عرض.
وذلك في عرض صباحـــي وآخـــر مسائي، وقد توقفت عروض المسرحية في أوج نجاحهـــا، بعد أكثر من 42 عرضاً، لأن محمد الحمر بالتحديد، لم يعـــد يستطيــــع الالتــــزام بعرضين يوميـــاً، أمام توجيهــــات رئيســـه المباشر بالعمل، والـــذي لم يوافــــق على تغيبه صباحاً ومساءً، طيلة هذه الأيام، ووضعه بين خيارين، أفضلهما مر وصعب على نفسه.
نداء أرفعه إلى زملائي المسرحيين والمثقفين، ألا نجعل ذاكرتنا ممسوحة، دعونا نذكر أصدقاءنا.. ومن كانوا معنا.. هي الحياة وفيها الزمــن لا يرحـــم، وكلمــة حب ضرورية، والكلمة الطيبة صدقة وما زلت اســـأل أين أنــــت يا محمد الحمر؟

