عهدي بـ «الودع» من أفلام السينما المصرية، يوم كانت بالأبيض والأسود، وصوت امرأة خرافية آمر يقول: «ارمي بياضك ووشوشي الودع يا بيضا».. لماذا البيضاء فقط وليس السمراء؟ لا أعلم! .

 

حين تلتفت بعد سماع تلك العبارة، ترى سيدة عجوزاً بثياب كالحة، لا تخلو من بقايا زركشة عتيقة، تفترش حصيرة أو بساطاً متهالكاً، وربما لاشي ء، بل تكتفي بالجلوس في أقرب مكان، وغالباً على الأرض، رملية كانت أو مطعمة بحبات الحصى الصلبة، فارشة منديلاً بالياً، ناثرة عليه مجموعة من القواقع المتماثلة، وبينها ربما، حصاة فارقة ملساء، ولعلها أيقونة الودع. في طفولتنا عرفنا مثل تلك القواقع، فكان التقاطها من على الشاطئ، متعة بالأمس، وهو اليوم سلوى، فقد كانت مطروحة على امتداد «السيفة» وبالمجان طبعاً!

أما تلك السيدة فهي البصارة أو ضاربة «الودع»، كما عرّفتنا بها وقدمتها إلينا، السينما المصرية.. ظلت هذه الشخصية مجرد رمز خيالي، يضفي على العمل الفني نكهة فناتازية مبهرة، يضحك لها البعض وتحرض فضول البعض الآخر، ليحلق بالخيال.

ضاربة «الودع» تلك، بتقاسيم وجهها المتغضنة، وأسنانها الفضية

أو الذهبية البراقة، لكن أيضاً هناك الشابة، وهي بلا شك، أكثر مهارة في ابتكار وسائل الجذب، وملامحهما المختلطة بالوشوم الخضراء، حيث تضفي هيئتهما، مزيداً من الغموض على بناء الشخصية، حفظتهما الذاكرة القديمة وارتبطت بزمن للفن، نصفه اليوم بالفن الجميل.

ومن عهد السينما باللونين حتى يوم قريب، حين وجدتني وجهاً لوجه أمام.. «الودع»، وهكذا كتبت على محيط وعاء شفاف، وجد

 

 

مكانه بين أوعية التوابل والمواد العشبية في سوق العطارين. تسمر نظري عليه واقتربت لأنظر إلى محتواه.. كانت قد استقرت فيه تلك القواقع البحرية الصغيرة المتماثلة نفسها، ووجدتني أمام واقع «الودع»، وأنه ليس دلالة فانتازية.. كما ساد اعتقادنا. ضحكت بعجب وانتقلت العدوى للبائع نفسه، سألته وأنا أشير إلى الوعاء وحقيقة ما فيه، وعن مصدرها، وإن كان يبيع تلك القواقع فعلاً أم هي للزينة فقط، أو لسد فراغ الرف!

فأجاب: نعم، إنها مطلوبة. لكنها ضمن الأعشاب الطبية والتوابل!فأضاف: أستورد هذه القواقع من إيران، وأدفع في الكيلو غرام الواحد منها، أكثر من 40 درهماً، ولدي زبائن بل زبونات، من ثقافات مختلفة، لكن هناك فئة بعينها تغلب على سواها، وهي لا تمت لأفلام السينما المصرية بصلة، وهن يقبلن على شرائها بكثرة، مؤكداً أن هناك من اثنتين إلى ثلاث مشتريات، شهرياً، وغالباً يأخذن سبع قواقع فقط، أو مضاعفات السبعة! وقال: لم أسأل قط عن استخدامها، لكنني كنت أسمع من بعض الزبونات مع بعضهن، عن بعض الاستخدامات لها، ومنها للتجميل أو البخور بعد سحقها.

وغالباً لا يهمني فيما تستخدم، فأنا تاجر أعرض بضاعتي، والمشتري يختار حاجته ويدفع ثمنها، ثم يمضي. ترى هل لا تزال وظيفة «الودع»، كما قدمتها السينما المصرية، حيث تكسب البصارة رزقها بتواطؤ الظرفاء، أو استدراجها للبسطاء، بزعم كشف الطالع وفك الربط أو السحر، بعد إطلاق عبارتها الشهيرة: «ارمي بياضك ووشوشي الودع يا بيضا»، هل ما زالت مهمة «الودع» مقتصرة على التقاف البياض؟!

وهل بقي يختزن وشوشات الزمن القديم للتسلية؟! أم أن له اليوم أغراض أخرى تجهلها بصارة السينما وتتبرأ منها، ولو كانت خرافية؟ ترى أين تتجه قواقع «الودع» السبع بعدما تخرج من وعاء العطار الشفاف، وتقع في أيدي نواعم الشرق من الجغرافيا، و.. سواحل الأطلسي؟