لا يحب تقليد نفسه، وتنتهي علاقته بكتابته عند نشرها، وهو الذي توزع بين خرائط العالم وتنقل بين مدن المنفى التي استفاد منها كثيراً. تلك هي حالة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، والذي كتب في روايته ذائعة الصيت "رأيت رام الله":

 "نجحت في الحصول على شهادة تخرّجي وفشلتُ في العثور على حائط أعلِّق عليه شهادتي". هكذا يصور البرغوثي حكايات المعاناة لفقد الوطن، موثقاً كيف انه لم يتمكن من العودة إلى مدينته رام الله، إلا بعد ثلاثين عاماً من التنقل بين المنافي العربية والأوروبية، وهي التجربة التي صاغها في سيرته الروائية.

 

في روايته الأخيرة "ولدت هناك ولدت هنا"، بدت ذاكرة مريد البرغوثي واضحة تماماً، ورافضة للمنفى بكل أشكاله، ماقتة ومنتقدة لأشكال الفساد، ومعلقة بأماكن وشخصيات عديدة مرت في حياته، وقد نجح صاحب ديوان "منتصف الليل"، في جعلها رواية مؤثرة في قلب من يطالعها.

وفي حواره مع "مسارات"، قال البرغوثي، الحاصل على "جائزة فلسطين للشعر وجائزة نجيب محفوظ للآداب"، إن واضعي المناهج التعليمية أساؤوا إلى أرقى فن عرفه العرب، مبرراً ذلك بإقبال الجميع على قراءة النثر لا الشعر، وأكد في حديثه أنه ضد مصطلح "الربيع العربي"، مشيراً الى أنه يسعى في كل مرة يكتب فيها، الى تقديم عمل فني جميل، مشدداً في الوقت نفسه، على أن العالم العربي يعاني من سوء حركة الكتاب وتسويقه.

قدمت خلال مسيرتك الأدبية مجموعة من الإصدارات الشعرية والروائية، وآخرها رواية "ولدت هناك ولدت هنا"، فما الذي يجعل هذه الرواية مميزة عن بقية إصداراتك، وكيف تقرأ صداها؟

في الحقيقة يُسأل في ذلك القراء والنقاد والباحثون، وأنا لا أدري سر نجاح أي كتاب، لأنني أعتبر أن العمل الأدبي لا يكون ملكاً لكاتبه بمجرد خروجه من يده، ويصبح في هذه الحالة ملكاً لقارئه. وروايتي :"رأيت رام الله"،"ولدت هناك ولدت هنا" وجدتا قراء كثيرين، وطبعتا في عدة مرات، وترجمتا الى عدة لغات، الأولى، إذ ترجمت إلى أكثر من 20 لغة.

واعتقد أن سر نجاح" رأيت رام الله"، وكذلك"ولدت هناك ولدت هنا"، كون الإقبال على النثر عموماً، يكون أكثر من الشعر، وذلك بسبب سهولة الأول، بينما الثاني يحتاج إلى تدريب ما على قراءته، وللأسف نحن تلقينا تدريباً خاطئاً على قراءة الشعر أثناء دراستنا في المدارس والجامعات، ولذلك أرى أن من وضعوا مناهج التعليم، أساؤوا كثيراً إلى أرقى فن يتقنه العرب وهو الشعر.

والنصوص التي يتم اختيارها لتدرس في المدارس، هي، وفي غالبيتها، نصوص رديئة. وبالتالي فغالباً ما يتوقع الطالب أن ما تعلمه من الشعر، ما تعلمه في المنهاج والمقرر المدرسي، وأي اختلاف عن الذي تعلمه، يصبح بالنسبة له، محيراً ومربكاً ومرفوضاً من أصله. وأما في النثر، فتكون العملية أسهل، على الرغم من أن كتابة النثر والشعر، فيهما الحاجة نفسها للاتقان والمتطلبات الضرورية، وبالتالي يجب أن تكون لدى الكاتب والشاعر، قدرات وموهبة وشخصية خاصة، بحيث لا يكرر الكاتب ما قاله الآخرون وما قاله هو نفسه.

وعموماً الكتابة للنثر أو للشعر، لا تختلف أبداً، ذلك لأن تقنيات الكتابة فيها واحدة. وقد يمتلك أي شخص تقنيات الشعر والنثر، ولكنها وحيدة، لا تصنع منه شاعراً، وبالتالي، فإلمامه بتقنيات الكتابة وحدها لا يكفي، ويجب أن تكون لديه الموهبة، وكذلك أن يمتلك مهارات القول المتفرد والقدرة على تناول طازج غير مكرر.

 

تفاصيل فلسطينية

في روايتك الجديدة تحاول أن تنقل الواقع الفلسطيني، من خلال سيرتك الذاتية، فإلى أي حد ترى بأن ذلك كان مقنعاً للقارئ العربي، خاصة وأنه يعرف تفاصيل حياة الفلسطيني؟

عندما أذهب إلى الكتابة، أتوجه إلى تقديم عمل فني تتوفر فيه جماليات الكتابة، وقد يكون موضوع الكتابة محصوراً في العالم الخارجي، وقد يكون محصوراً في عالمي الداخلي، أو التاريخ أو الجغرافيا أو الذات البشرية أو المرأة. وغير ذلك الكثير. وبالنسبة لي، فأنا أسعى دائماً إلى تقديم عمل فني تنطبق عليه جماليات الكتابة، ولكن أنا من بلد نُكب بالاحتلال، وهو مهدد بالضياع.

وبالتالي، فإن حياتي الشخصية كفرد، وحياة الشعب الفلسطيني كمجموع، ووجودنا جميعاً في عالم عربي مشاكله تتزايد بفعل الاحتلال والطغيان والديكتاتوريات، أمور تجعل كتابة الذات والخارج ( محيطها) تقريباً، واحدة، لأنني مكون من هذا الخارج التاريخي الموجود حولي، ومن تاريخي ومكوناتي الشخصية، ولم يعد هناك فارق بين ذاتي ككاتب مفرد، وبين الذات الجماعية التي تشكل المجتمع.

قارئ الرواية سيلاحظ استخدامك كلمة "مستقبلاً" في بعض فصولها، والتي تتحدث فيها عن أحداث وقعت في رام الله، إبان اجتياحها، بأسلوب خبري. فلماذا استخدمت كلمة مستقبلاً علماً بأن الكتاب صدر في 2009، وهل كان سبب ذلك، أن السياق الزمني للرواية، يقع قبل اجتياح الضفة الغربية؟

"ولدت هناك ولدت هنا"، تبدأ من رواية وقائع حدثت في العام 1998، وتتمثل في اصطحابي ابني تميم إلى فلسطين، ولكن بدء الكتابة تم في 2008 2009، أي بعد 10 سنوات.

وما حدث في ذلك الوقت أكتبه في 2009، وبالتالي فمستقبل تلك اللحظة، أصبح حاضر الكتابة، وأتحدث عن ما وقع فعلاً في التاريخ، والتقديم والتأخير الزمني أحد تقنيات الكتابة، وهو منهج متبع عموماً، ففي "رأيت رام الله" يوجد لقطات استرجاعية للماضي فقط، ذلك لأنني أكتب عن 30 عاماً انقضت في المنافي خارج فلسطين، بينما في رواية "ولدت هناك ولدت هنا"، اتيح لي الكتابة عن المستقبل».

 

سرديات رحلة الشتات

في روايتك الحالية تسافر بالقارئ من مكان لآخر، من مصر إلى الأردن وشتى مدن المنفى، ثم تعود به إلى رام الله التي تعد مهد الأحداث ومركز ثقلها، فما هو سبب قيامك بذلك، هل تود أن يعيش معك القارئ رحلتك الطويلة؟

هذه هي حالة الشتات الفلسطيني وأنا لست استثناءً، وحاولت أن أقدم في هذه الرواية عملاً فنياً جميلاً في داخله تجد التاريخ والسياسة والنفس البشرية، وأحياناً الموقف السياسي، وهذا الفرق بين العمل الفني وبقية أشكال الكتابة والمحاضرات.

 

«القدس» وتميم

ركزت في مجموعة من الفصول على ابنك الشاعر تميم، وعلى عملية دخوله إلى الأرض المحتلة، وحصوله على الهوية الفلسطينية، فلماذا لم تنقل لنا مشاعره الحقيقية هو تجاه هذا الحدث فيما كنت تنقل مشاعرك وأحاسيسك أنت؟

لا يستطيع أحد أن ينقل مشاعر شخص آخر، ولذلك فقد تركت هذا الأمر لتميم نفسه ليعبر عن شعوره الداخلي، وقد عبر في قصيدته "القدس" عن جزء من هذه الأحاسيس، وأنا استطيع أن أرى المشاعر مجسدة على ملامح وجهه، وهو الذي من حقه أن يصف مشاعره، ولست أنا.

تطرقت في فصول رواية "ولدت هناك ولدت هنا" إلى العديد من المواقف التي تبين فساد بعض الأنظمة العربية وديكتاتوريها، ونحن الآن نعيش أجواء الربيع العربي، فهل يمكن القول: ان ذلك كان محاولة للتنبؤ بالربيع العربي، أم انه من باب انتقاد الأنظمة؟

كتاباتي نقدية منذ 30 عاماً وأكثر، وعادة ما انتقد الوضع الراهن وأدعو مع كتاب آخرين، إلى التغيير، وقد عبرنا عن سخطنا وعدم رضانا عن الشكل الذي تدار به حياة المواطن العربي، وفي انتقادي لا استثني أحداً، حتى القيادات الفلسطينية نفسها.

نعيش حالياً حالة من الربيع العربي، ومن المتوقع أن تفضي إلى مساحة أوسع من الحرية، فهل تتوقع ذلك؟

أنا لا أحب تعبير "الربيع العربي" و"ثورة اللوتس" و"ثورة الياسمين"، وأعتبرها أسماءً زراعية بلهاء لا يجوز أن تطلق على حركة شعوب مجيدة وعظيمة، وبتقديري، اننا نعيش حالياً في فترة يتشقق فيها التاريخ العربي، ونحن على أعتاب مرحلة جديدة قد يكون فيها الكثير من الصعوبات والاحباطات والانتكاسات.

ورغم ذلك تبقى هذه مرحلة جديدة يموت فيها الماضي الذي كان يعيش فيه العالم العربي، محكوماً من قبل حكومات لا شرعية ومؤبدة. وبغض النظر عن النتائج فنحن بهذه الثورات نشهد بداية تاريخ جديد بشكله وملامحه وخسائره ومكاسبه، ولكن بكل الأحوال لن يعود بنا إلى الماضي المعيب والمخجل الذي كنا نعيشه في العقود الماضية.

هل تنبأت بالثورات العربية؟

في العالم العربي يصعب التنبؤ بأي شيء، لأن الحياة السياسية ميتة، وتم قتلها وهو ما حول كل شيء لدينا إلى صوري غير حقيقي، وبالتالي لا تستطيع أن تبني عناصر تتنبأ بها بشيء، فكيف يمكن أن نتنبأ بحياة سياسية كافة مفرداتها غائبة؟ ولكن المؤكد أن مجموعة من الكتاب، وأنا منهم، كانت تنتقد الراهن وتعلن عن تمنياتها بهدمه، للبناء على أنقاضه عالم جديد..

وهذا نجده في معظم كتابات الكتاب الحقيقيين في العالم العربي. ورسالتي للناس أنتم صنعتم نقطة ترتكزون عليها لبناء تاريخ جديد، ورغم أن النظام القديم المتهاوي، سيرفع التكلفة ويجعلنا نتألم وندفع التضحيات، الا أنه لن يتمكن من سرقة اللحظة التاريخية، ونحن الآن في مفصل تموت فيه حقبة زمنية عربية، وتولد أخرى. وهذا مبعث للأمل والتفاؤل.

 

معاناة

تعاني المكتبة العربية من افتقار كتب السير الذاتية بشكل عام. بتقديرك، اين يكمن الخلل، هل في الكتاب والأدباء أنفسهم، أم في القارئ العربي؟

مكتبتنا تحتوي على كتب كثيرة للسيرة الذاتية، ولكن نحن لا نعلم بوجودها بفضل سوء حركة الكتاب في العالم العربي، وسوء عملية توزيعه بين الحدود العربية، ومعظم مكتباتنا استبدلت بمحلات أخرى، ويقل بناؤها. ولدينا في العالم العربي، إنتاج أدبي. ولكن حركته بين القراء العرب مشلولة، وقد يستغرق وصول الكتاب إلى القارئ العربي أحياناً، قرابة الـ 5 سنوات، لأن دور النشر لدينا لا تمتلك الموارد الكافية لتنفق منها على تسويق الكتاب والترويج له.