مبدع تعلق بالحرية وأبى إلا ان يبقى يجسد في تركيباته اللغوية ضمن جميع أعماله، الحب الذي يكنه لأرضه وللمناظر الطبيعية الريفية ليس صدفة أن يفتح الشاعر الاسباني فيديريكو غارسيا لوركا، عينيه للمرة الاولى، ويغلقهما للمرة الأخيرة بحياته، في أرض غرناطة. وليس صدفة أن يكتب جل أعماله هناك، متنقلًا بين المدينة الأندلسية وأريافها.

وكذلك ليس صدفة أن تشكل تلك الأرض الطيبة، أحد أهم مصادر الإلهام لهذه التجربة الابداعية العملاقة، وليس صدفة، أيضا، أن تنشأ تلك العلاقة الحميمة، بين الأرض والشاعر.

 

في قرية فوينتيفاكيروس الغرناطية، تجدد اللقاء على الأرض هذه المرة، وليس على الورق، كما هو معتاد، مع فيديركو غارسيا لوركا(1898-1936)، والذي بدا لنا هناك، بحق، مصرا أكثر من أي وقت مضى، على مواصلة رمي سنارته التي لا تخيب في اصطياد المزيد من المعجبين.

وإحداث المزيد من الدهشة لدى كل من يقترب من حياته أو أدبه أو شخصيته، فخلال ساعات ثلاث، أمضيتها هناك مع صديقي الشاعر علي العامري، وقفنا على مشهدين مفعمين بالدهشة والمصادفات، لا بل إن وصولنا في وقت الظهيرة، وعدم علمنا بأن المتحف- البيت الذي رأى لوركا النور فيه، يغلق أبوابه كل يوم، في هذا الوقت بالذات.

وما شكل بالنسبة لنا، صدفة مدهشة أخرى، البوابة التي عبرنا من خلالها عتبتي تينك المشهدين، اللذين بدونهما كان من الممكن أن تبقى زيارتنا، تحلق في دائرة الزيارات الروتينية لأي مكان تاريخي في الدنيا.

 

بيت ومقهيان وتمثال

المشهدان تختزلهما وتدل عليهما جغرافية بيت لوركا، في قرية وديعة يعتمد سكانها على زراعة التبغ وتجفيف وريقاته، فذلك البيت يقع وسط شارعها الرئيسيـ وليس بعيدا عن مقر بلديتها الواقع على أحد جوانب ساحة يتوسطها تمثال صغير للشاعر الغرناطي، وبين مقهيين صغيرين ملاصقين للبيت المدهون باللون الأبيض الكلسي، مذكرا بذلك الزمن الذي لم تكن قد تطورت صناعة الدهانات فيه بعد، حيث شاءت الصدف أن نجلس في هذين المقهيين على التوالي، إلى أن يفتح متحف لوركا أبوابه.

ويبدأ باستقبال الزوار الذين شاءت صدفة أخرى، أن يكونوا هذه المرة من الأطفال الصغار الذين كانت الزيارة المسائية مخصصة لهم، حتى ان المشرفة على المتحف أبلغتنا بالأمر، قبل أن تقطع لنا بطاقتي الدخول. ثم سألتنا إن كان لدينا مانع في أن ندخل معهم ونشاركهم الزيارة، فوافقنا من دون تردد.

المقهى الصغير الأول يقع في الطابق الأرضي من مبنى صغير، مكون من ثلاث طبقات بيضاء اللون على يسار بيت لوركا، وكانت طاولاته فارغة تماما من الزبائن، إلا واحدة كان يجلس عليها شخصان سرعان ما انضممنا إليهما صديقي زانا، وسرعان ما تبين لنا أن أحدهما هو صاحب المقهى ومديره والعامل فيه ويدعى بيبو، وأن الشخص الثاني هو جاره الذي يسكن في الشقة العليا التي تشغل الطبقة الثالثة والأخيرة من المبنى نفسه، واسمه أنخيل كوستوديو، وهو رجل سبعيني دفعه تعلقه بأدب لوركا إلى شراء تلك الشقة والسكن فيها، لاستكمال دراساته في فقه اللغة الاسبانية.

والتي بدأها بعد أن تقدم به العمر في جامعة غرناطة- قسم الفلسفة، حبا بأشعار الشاعر الاسباني الشهير، وتعلفا بتجربته الابداعية، ولإشباع توق يتملكه لمعرفة سر كل ذلك الألق الابداعي، فهجر زوجته وابنيه في مدريد التي كان يعمل فيها ممرضا، واستهل رحلته عبر دروب غرناطة وبيوتاتها التي احتضنت خطوات الشاعر، فكانت البداية من مسقط رأسه في قرية البخارى الغرناطية. ومرت بوادي غرناطة الكبير، وصبت هناك في فوينتيفاكيرو، مسقط رأس فيديريكو غارسيا لوركا.

 

حكايات حميمة

ما كان أنخيل بحاجة إلى كثير عناء حتى يتبين سبب زيارتنا للقرية، فاستهل حديثه مباشرة عن لوركا وعائلته، والتي قال إنها كانت عائلة أرستقراطية وثرية جدا، مبينا ان والد لوركا كان تاجرا كبيرا، امتد نشاطه التجاري والزراعي في أنحاء متفرقة من منطقة غرناطة، بريفها ومدينتها، والتي تحتضن، بيتا آخر من المجموعة التي كانت تمتلكها العائلة الثرية، ويطلق عليه ( لا هويرتا دي سان فيسنتي)، ويحمل الرقم ستة، وكان البيت الصيفي لعائلة غارسيا لوركا، بين عامي 1926 و1936.

وفيه كتب فيديريكو غارسيا لوركا، بعض أعماله الرئيسية، ومن بينها : ( هكذا تمضي خمس سنوات)- 1931،( أعراس الدم)- 1932،( ييرما)-1934. وأيضا فيه عاش الأيام التي سبقت عملية اعتقاله وقتله على يد ميليشيات الدكتاتور الفاشي فرانكو، في بداية الحرب الأهلية الاسبانية، عام 1936.

ومنذ عام 1995 تحول البيت إلى متحف تحيطه حديقة كبيرة يؤمها الغرناطيون في أي وقت من النهار أو الليل، على مدار العام ، وأصبح في يومنا هذا، مركزا ثقافيا يعج بالحياة في مدينة غرناطة. كما لا يبعد عن قصر الحمراء سوى دقائق معدودات، بالسيارة.

تحدث أنخيل مطولا عن العلاقة الدافئة للغاية التي كانت تجمع بين أفراد أسرة لوركا الخمسة، أب وأم وبنت وولدين، لكنه ركز إلى حد لافت للانتباه، وكأنه يدافع عن أمر ما، تحدث عن علاقة الأم بابنها لوركا على وجه الخصوص، مؤكدا أنهما ما كانا يفترقان، وأنها كانت تصطحبه معها في الصغر، أينما ذهبت، حتى داخل أروقة البيت الحجري، الذي كانت تقطنه العائلة بتصميمه المعماري على الطراز العربي، وبطبقتين مربعتي الشكل، يتوسطهما ( حوش) الدار، بمكوناته البديعة، من أشجار البرتقال والليمون، بخضرتها الزيتية المرصعة بحبات البرتقال والليمون وشجيرات الياسمين، الآسرة ببياض أزهارها الفواحة التي تخيم على بئر صغيرة، تطل من بين تلك الشجيرات من إحدى زوايا المكان بأرضيته المرصوفة بحجارة سوداء، أصبحت لمساء لامعة من كثرة الدوس عليها.

هناك في ذلك الريف الغرناطي، علمت الأم ابنها القراءة بمعناها الواسع، مثلما علمته آداب الحياة والعزف على البيانو، الذي لا يزال قابعا في غرفة صغيرة مجاورة لغرفة نومها، ومفتوحة عليها، وربما هناك اكتشفت نبوغه وجنوحه إلى الخيال، فراحت تغذيها برموش عينيها وتحرص على تنميتها، وهناك تعرف لوركا على حبه الأول عندما كان قد اقترب من ربيعه الثامن عشر، بينما كانت الفتاة التي أحبها وكتب لها الكثير من الرسائل، في ربيعها السادس عشر.

 

«قريتي...»

إن تركيز أنخيل على هذا الجانب الغرامي في حياة الشاعر، ربما مرده إلى محاولته لدحض إشاعات ترددت حول شخصية لوركا، بعد أن انتقل إلى مدريد وعاش مع جماعة الـ( 27) التي كان سلفادور دالي من أبرز أعضائها.

كما تحدث أنخيل كتاب يحمل عنوان( قريتي ونصوص أخرى من فوينتيفاكيرو)، الصادر في مطلع عام 2011 ا، والذي يجمع للمرة كتابات لوركا النثرية والشعرية، التي تشير إلى قريته التي شهدت ولادته ( فونتي فاكيروس)، وهو عمل لا غنى عنه لفهم علاقة الشاعر بأرضه الحبيبة، لا سيما وأن الكتاب يبني مادة لا بد منها إذا أردنا فهم أعمال لوركا وعلاقتها مع مفردات منطقة ( لا فيغا دي غرانادا) عموما، ومع ( فوينتي فاكيروس) خصوصا، المكان الذي عاش فيه الشاعر سنواته الأولى، واستهل اتصاله بالآداب، واستلهم منه العديد من أفضل كتاباته:( فوينتي فاكيروس إسمها هذه القرية.. نبع قلبي في نبع المياه المنعمة.. أعود.. أعود من أجل جناحي.. دعوني أعود.. أريد أن أموت وقد أصبحت ينبوعا).

على اختلاف وتنوع أعماله، يجسد لوركا في تركيباته اللغوية، الحب الذي يكنه لأرضه وللمجتمع الريفي وللمناظر الطبيعية فيه، كما يفعل في ( قريتي) أو في ( مدرستي)، وصولا إلى ( تلميح إلى فوينتي فاكيروس)، مرورا بقصائد مثل ( غد) و( سيجارة) و( دوارة الريح).

وتمثل ( لا فيغا دي غرانادا) قرية غرناطية أخرى، كانت قد عاشت فيها عائلة لوركا. وشكلت مسرحا ترعرع فيه فيديريكو خلال سنواته الأولى أيضا، وفيها بدأ يتلمس موهبته الأدبية. واستوحى عددا من أشهر إبداعاته التي يضمها هذا الكتاب، حيث يمكن القول إن السيرة الذاتية النثرية ( قريتي) ربما تعتبر التعبير الأفضل عن شخصية الشاعر الراحل، ايام شبابه، ففيها يتحدث عنى انطباعاته الأولى، وبدأ من الفنية الخالصة وحتى الأكثر شخصية منها، والتي تنطلق من شبابه ومروراً بمرحلة نضوجه التي تجسدت في تجربة (شاعر في نيويورك).

قدرة المصادفة الثانية في فوينتي فاكيروس لا تقل قدرة على احداث الدهشة، فبينما كان أنخيل مستغرقا في سرد كل ما يعتقد أنه غير معروف ومثير في حياة لوركا، أعلن بيبو الذي ظل صامتا طوال الوقت، ومنشغلا في تلبية طلباتنا، أنه آن أوان إغلاق المطعم للاستراحة، فتبادلنا أرقام الهواتف والعناواوين الالكترونية مع أنخيل. وتوجهنا إلى مقهى آخر، يقع على يمين بيت عائلة لوركا الذي يمكن تأمل جانبا منه، من داخل ذلك المقهى،.

وما أن اخترنا إحدى الطاولات وجلسنا عليها، حتى راح يتبين لنا أن المكان يحتضن معرضا تشكيليا لفنان مدريدي، ولكن المفاجأة حملها رد السيدة التي تدير المقهى، على سؤال وجهته لها، حول سر وجود صورة للكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا مع سيدة أخرى، معلقة بعناية على أحد جدران المقهى، إلى جانب عدد آخر من الصور، فقالت السيدة، إن الصورة التقطت في المطعم نفسه الذي كنا جالسين فيه، أثناء زيارة قام بها صاحب نوبل، الى بيت الشاعر الشهير، خلال السنة الماضية، وبينت أن السيدة التي تظهر معه في الصورة، هي أختها، والتي تدير المقهى في الفترة الصباحية.

لم تحاول سيدة المقهى إخفاء ما تحرك لديها من مشاعر الفخر والاعتزاز، بزيارة شخصية أدبية مرموقة بقامة شخصية يوسا لبلدتها ومقهاها الصغير. وكذا فعلت بالنسبة لموقع بيت لوركا الذي ربما لا يبعد عن مطعمها سوى أربعة أمتار فقط ، وما يلمح له بعض سكان القرية، حول أنها تستغل، هي واختها، هذا التقارب لغايات ربحية، فراحت تتصرف كسيدة تخدم ضيوفا لها في منزلها الخاص وليس في مكان عام، فاختلط العام بالخاص، متفتقا عن مشهد انساني بديع، لا مكان فيه إلا لجماليات مجتمع بشري، في لدنه تذوب الجغرافيات والانتماءات الضيقة، التي لطالما نبذها لوركا ويوسا، على حد سواء.