باتت برامج (الفنان المقيم)، جزءاً لا يتجزأ من حركة الفنون البصرية في الإمارات. وتعنى مثل هذه البرامج بصقل مواهب الفنانين الشباب. وتبنت عدة مؤسسات وهيئات حكومية وخاصة مثل هذه البرامج، ضمن إطار مشروعات نوعية متكاملة، وأحدثها مبادرة هيئة دبي للثقافة والفنون في هذا الصدد، وذلك للعام الثاني على التوالي.

 

تتنوع البرامج الابداعية الفنية التي تطلقها وتتبناها دبي، سعيا إلى تعزيز البنية التحتية لحركة الفنون البصرية في المنطقة. وفي هذا السياق، تأتي جهود (هيئة دبي للثقافة والفنون): " دبي للثقافة"، بالتعاون مع (مؤسسة دلفينا) و(آرت دبي) و(تشكيل)، ضمن فعاليات الدورة الثانية من برنامج (الفنان المقيم) لعام 2012، والذي تضمن هذا العام، برنامج إقامة لأحد القيمين الدوليين.

تكمن أهمية مثل هذه البرامج في توفير البيئة والمناخ الملائم للفنان أو الفنانين، لبلورة إبداعاتهم، سواء من خلال توفير المكان أو الجو العام لحوار فني وتواصل اجتماعي. وأما أول برنامج في هذا الإطار تم تطبيقه، فكان في القرن الـ19، إذ لعب الحوار والتواصل بين الفنانين، دوراً بارزاً في تألق المبدعين.

حيث يجمع هذا النوع من البرامج، بين عزلة الفنان عن إيقاع حياته اليومية ليتفرغ لإبداعه، وفي الوقت نفسه، تواصله مع وسط اجتماعي فني يضيف الى تجربته في مجتمع جديد عليه، إضافة إلى مد جسور التواصل والحوار بين مختلف الثقافات، وإثراء ثقافة الفنان المعرفية والفكرية والبصرية.

التقى" مسارات" الفنانين المشاركين في البرنامج الذي بدأ في الثامن من شهر (يناير)، ويستمر حتى السابع من الشهر المقبل (ابريل )2012. وهم ثلاثة فنانين زائرين، تعاونوا مع ثلاثة من الفنانين الإماراتيين.

إضافة إلى القيّمة الفنية. وذلك خلال عملهم على إنجاز مشاريعهم الإبداعية التي قدمت في معرض (سكة الفني)، في منطقة البستكية في دبي، الذي تختتم فعالياته هذا اليوم، بعد ان كانت انطلقت في الـ15 من الشهر الجاري. كما قدمت تلك الأعمال، أيضا، في معرض (آرت دبي) الذي أقيم خلال الفترة، من الـ 21 إلى الـ 24 من الشهر الجاري.

 

غيمة ماطرة

بدأت جولة اللقاءات، بزيارة الفنانة المقيمة دينيز أوستر، التركية الجنسية، والتي كانت تعمل على مشروعها (3 براجيل) في الباحة الداخلية لمركز تشكيل في ند الشبا. وقالت عن مشروعها: (كنت حائرة في البداية كيف أجسد رؤيتي حول دبي في أحد أعمالي، ولكن بعد وصولي إلى البلد وتواصلي مع الفنانين والمعنيين بالشأن الفني وجولاتي في المدينة، كان من السهل علي وضع التصور).

وأصرت دينيز على أن تقدم لنا عرضاً لما أنجزته حتى الآن في مشروعها، وبمساعدة زوجها النحات توم، إذ قاما بتركيب أجزاء عملين من مجسماتها، ويصور العمل الأول مدينة دبي بحضارتها وبيئتها وتراثها. وقالت الفنانة في هذا الصدد: (انطلقت من القاعدة التي تشكل رمال الصحراء، لينتصب فوقها برج معدني يرمز إلى العمران والتطور.

ولتتوج بالإيقاعات، من خلال الضرب على الطبل التقليدي الذي يصدر إيقاعاً متواتراً، عبر عجلة مثبتة في الأعلى. وبالطبع، اعتمدت في بناء مجسماتي على المواد التي سبق استخدامها، في إطار محافظتنا على البيئة).

ويرمز البرج الثاني، إلى مدينة إسطنبول التركية، والتي تشتهر بالقهوة وتقاليد صناعتها، في حين يمثل البرج الثالث مدينة غلاسكو ببريطانيا، حيث تقيم الفنانة. وجمعت في البرجيل الخاص بتلك المدينة، بين الصناعة والخضرة والمطر، بأسلوب طريف، حيث أصرت على حمل الغيمة مع زوجها، لترينا كيفية هطول الأمطار منها، على شجرة نبتت داخل إطار عجلة سيارة.

وقالت دينيز عن مشاركتها في البرنامج: ( أنا سعيدة جداً بتواصلي مع فنانين من الإمارات، وتبادل الأفكار والحوار حول الفن، وأعمالنا التي نقوم بإنجازها).

 

أسواق الماضي

درست زينب الهاشمي في الجامعة، تصميم (الغرافيك)، لتبدأ رحلتها مع الفن الرقمي (الديجيتال)، الذي يعتمد على معالجة الصور. وقالت: (تعرفت على هذا الفن خلال مرحلة الدراسة، وهو ما كان متاحاً لي، وحين انطلقت في الحياة العملية وبدأت المشاركة في المعارض، وجدت نفسي أميل إلى الفنون البصرية الحديثة، وفي مقدمتها الفن التركيبي. فمن خلال هذا الوسيط، أستطيع التعبير عن ما في داخلي من مشاعر وأفكار وحب للوطن).

وأضافت: (إن ما شجعني على تقديم المزيد من الأعمال في هذا الاطار، اختيار القائمين على سباق الفورمولا أبوظبي، الذي أقيم في شهر نوفمبر من العام الماضي، لفكرتي الفنية، كأفضل إكساء لهيكل سيارة سباق، حيث اعتمدت على حبال الخوص المصنوعة من النخيل، لحرصي على تميز سباق الإمارات، عن أي سباق دولي آخر).

في مشروعها الجديد ضمن برنامج الفنان المقيم، انتقلت زينب من عالم السباقات والسرعة، إلى أسواق الأقمشة القديمة في الإمارات ودبي تحديداً، لتستبدل خامة الحبال بخامة أخرى، مستوحاة من أجواء وتاريخ تلك الأسواق، وما اختزنته ذاكرتها عن الحمالين الذين يجرّون خلفهم عربة خشبية على عجلتين، ينقلون عليها أثواب الأقمشة، من وإلى المتاجر في السوق.

وقالت عن جدوى مشاركتها في البرنامج: (نحن نلتقي مرتين في الأسبوع، ونحكي في اللقاء الأول الجاد نسبياً، عن مقترحات مشاركتنا في "آرت دبي)" ومعرض "سكة الفني"، وكذلك أية مبادرات في هذا الإطار. أما الاجتماع الثاني فنحكي فيه عن مشاريعنا، ونتبادل الأفكار، ونطرح ما نواجهه من إشكاليات في العمل، للاستماع إلى حلول ومقترحات. ويكفي أني تعرفت على فن الصوت، من خلال زميلنا الفنان الزائر مجدي مصطفى).

 

أيقونات إماراتية

تم ترشيح الفنانة الشابة هدية بدري، التي تخرجت في الجامعة الأميركية في الشارقة عام 2009، إلى البرنامج، من خلال مركز "تشكيل"، وقالت عن مشروعها،: (بدأت مشروعي كاستمرارية لأعمالي السابقة، في معرض (تعابير إماراتية)، لكن تواصلنا وحواراتنا كان لهما كبير الدور في تطوير فكرتي إلى تفاعل الشيء مع المحيط، وتداخل المعرفة بالهوية، بين الطبيعة والرموز المعلقة وغيرها.

وأيضا الحوار بين العناصر وكيف يتجلى هذا الحوار، في بعض الأحيـــان، في الفضاء الذي تشغله هذه العناصر أو الأشخاص الذين تحيط بهم، وسيضم عملي، إضافة إلى الصور المعالجــــــة تقنيا، مطبوعـات إضافــة إلى كاتالـــوغ لتوثيــق الأعمال).

 

أدوات منسية

كان صوت عبد الحليم حافظ ينساب في فضاء الزقاق، قرب البيت رقم (11) في منطقة البستكية، لحظة استقبال الفنان ناصر نصر الله لنا. وكانت أرضية غرفته بطولها، مفروشة بالعديد من المعدات والأدوات الصغيرة متعددة الألوان، كزجاجات العطر الملونة الدقيقة والخيطان والأزرار، وغيرها، وعلى طاولته البيضاء الصغيرة، عرض من خلال شاشة حاسبه المحمول، نماذج من أعماله التي يقوم بتنفيذها.

ووصف نصر الله مشروعه : (لطالما لفت انتباهي ذاك الإسراف في استخدام الأجهزة والأدوات الكهربائية والالكترونية، من الهواتف النقالة ووصولاً إلى السيارات والتلفزيونات. وتلك كانت بداية الفكرة، إلى جانب مشروع آخر، يحمل عنوان "محول القصص"، والذي يتطلب أداءً حياً تفاعلياً بيني وبين الزوار. وتعتمد فكرة العمل على رسمي لانطباعات، كتبها المشارك داخل صندوق، من دون رؤيته لها). وأضاف: (أما فيما يتعلق بمشروعي الأول "آلات مستهلكة"، فيضم ما بين 7 و 10 مكعبات، ويحمل كل سطح من هذه المكعبات، شيئا منها، بتركيب فني، ومنها القديم والحديث).

وقال الفنان نصر الله، فيما يتعلق بتجربته في البرنامج: (أجمل ما في البرنامج، تنوع أساليب الفنانين وثقافاتهم، وتلك العفوية في التواصل والحوار. وكان للفنانة التركية دينيز تأثير إيجابي على تطوير فكرة عملي، واستفدت كثيراً من تجربتها وآرائها).

 

فن الصوت

واختار الفنان الزائر (الثالث)، الشاب مجدي مصطفى، غرفة في صحن الدار، كمقر لإبداعاته، وهي تضم بئراً عميقة جافة، تفوح منها رائحة رطوبة مكثفة. وقال مصطفى عن سبب اختياره تلك الغرفة: (إن وجود البئر عنصر مهم من مشروعي الذي أعتمد فيه على الصوت كوسيط. فتجويف البئر يعطي صدى إضافيا للمكان).

وتتمثل أدوات مصطفى في طاولة وكمبيوتر محمول، وبعض الأجهزة الموسيقية، كمكبرات الصوت والميكروفونات و(المكساج)، ولدى سؤالنا عن طبيعة مشروعه، أسمعنا جزءاً مما أنجزه. وكان صرير الجندب ينبعث في أرجاء الغرفة، لتشتد زمجرة الريح التي تتحول إلى هدير آلة ما، ومنها إلى حفيف الأشجار وزقزقة العصافير، ليحل السامع في أجواء سريالية، بين حين وآخر.

وقال مصطفى عن الأبعاد الفنية لعمله: (بدأت العمل على فن الأصوات، منذ عام 2001، وتطورت التجربة في عام 2003، حيث بدأت ربط الصوت من خلال مصدره، كالعمارة والمكان العام والمقهى والعجلة وغيرها. وما أحاول التركيز عليه، هو ديناميكية الأصوات لتقديم مشهد فني سمعي، يشكل صورة بصرية في مخيلة المستمع).

وأضاف، شارحا طبيعة البرنامج وأهدافه: (تعتبر مثل هذه البرامج بمثابة فرصة ذهبية للفنانين، للتواصل والتعارف والاطلاع على فنون مختلفة وتجارب جديدة).

 

مايسترو الفريق

كانت المحطة الأخيرة من اللقاءات مع القيمة الفنية الزائرة، الشابة ألكسندرا ماكغيلب، بريطانية الجنسية، والحاصلة على شهادة دكتوراه في تاريخ الفن المعاصر خلال العام الماضي، والتي كانت تقوم بدور مايسترو فريق الفنانين. وقالت عن تجربتها: (أكثر ما لفت انتباهي، الحضور النسائي العالي في الساحة الفنية، كما دهشت من كثافة الحركة التشكيلية في المنطقة، سواء بعدد الغاليريات والمعارض أو عدد الفنانين الشباب. كما زرت بعض الهيئات الحكومية المعنية بالشأن الفني في أبوظبي ودبي والشارقة، كمؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي في أبوظبي، كما سأعد بحثاً خاصاً حول الموضوع).