أعمال فنية مميزة ومتنوعة، أبدعتها مجموعة نساء تركيات. هذه هي السمة المشتركة التي تبرز في معرض الحلم والحقيقة, فنانات عصريات ومعاصرات من تركيا، والذي اختتمت فعالياته في اسطنبول، مطلع العام الحالي، إذ زاوج في الأعمال التي تضمنها بين إبداعات رسامات شبه منسيات من الحقبة العثمانية، وأخرى لفنانات تثير إبداعاتهن الاهتمام في تركيا، خلال الفترة الراهنة.
لم تقتصر رؤى وأهداف تنظيم المعرض، الذي أقيم في متحف الفنون المعاصرة في اسطنبول، على إبراز الجانب الإبداعي لفنانات تركيات، وإنما، طالت أغراضه ومراميه، تجسيد ماهية التحول الاجتماعي والثقافي في تركيا، خلال القرن الماضي الـ21.
وفي هذا السياق لفت أمين المتحف، ليفنت كاليكوغلو، في هذا الشأن، إلى دور المعرض، في تبيان أهمية وحساسية إسهام المرأة التركية في مساقات الفن والحراك المجتمعي الفكري بوجه عام، منذ القدم.
ورأت صحيفة «انترناشيونال هيرالد تريبيون» الأميركية، في تقرير لها، حول المعرض، أنه يبين مدى براعة أعمال فنانات الحقبة العثمانية، واللواتي تحدين مجتمعهن لتحقيق أحلامهن في امتهان الفن. وأوضح تقرير الصحيفة ان قيمة المعرض المثلى، تتبدى انطلاقاً من كونه يبرز لوحات لهاتيك الفنانات، تضاهي أعمال رسامات اليوم في تركيا، اللاتي يعالجن موضوعات العصر في أطر أكثر حداثة، مثل استخدام الفيديو،.
مبيناً أن ما يدعو للأسف، هو ضياع لوحات كثيرة لهؤلاء الفنانات، إذ لم يبق من أعمالهن إلا ما ندر، وذلك خاصة، في ظل هيمنة الثقافة الذكورية واحتكار الرجال لفن الرسم وغياب اهتمام الدولة التركية، والتي هي الراعي الأكبر للفنون، منذ أوائل القرن الماضي.
الرسم والأنوثة
لم تكن الطريق معبدة أمام الفنانات الرائدات في تركيا كما اليوم، ففي عام 1913، على سبيل المثال، كتبت صحيفة «جمعية الرسامين العثمانية» تقول إن مهنة الرسم والأنوثة لا «تتفق إحداهما مع الأخرى»، ذلك أن الحب العميق للفن و«الرغبة» الجامحة في الرسم، يعدان سمتين ذكوريتين بطبيعتهمـــا. ولكن الوضع بدأ يتغير في نهاية الإمبراطورية العثمانية.
وتنقل صحيفة «انترناشيونال هيرالد تريبيون» عن ليفنت كاليكوغلو قوله في هذا السياق، إن عدداً من المثقفين في بداية القرن الماضي، من أبناء الطبقات المترفة أو الطبقات الوسطى الغنية، لاسيما في اسطنبول، وخصوصاً ضمن عائلات غير مسلمة، شجعوا بناتهن على تعلم الرسم والتحدث بالفرنسية وإتقان العزف على البيانو، في إطار الجهود الطامحة للظهور بمظهر اكثر تشبهاً بالغرب.
لكنه يؤكد أن ذلك لم يكن يعني تشجيع الفن وتجسده كمسار للامتهان بالنسبة للنساء، حيث إن هدف المجتمع الرئيسي بالنسبة لهن، بقي في إطار أداء أدوارهن كزوجات وأمهات.
ويضيف كاليكوغلو: كان الفن بالنسبة للنساء في ذاك الزمن مجرد هواية وتمضية للوقت، وبهذا المعنى المهني احتكر الرجال الفن تماماً، كما احتكروا كلمة «العبقرية».
وأشار أيضاً إلى أن هذا الوضع لم يكن قائما في تركيا فقط، إذ قال في هذا الخصوص: «لا اعتقد أن المجتمع العثماني قدم بيئة اكثر تقييداً، مما كان تختبره الفنانات الانطباعيات الفرنسيات، وذلك يتبدى بأمثلة متنوعـــة كماري كاســـات أو برثي موريسو، فالنساء العثمانيـــات والفرنسيـــات واجهن مصاعب مماثلة، نجدها بينة في الأدوار الاجتماعية المحددة لهن».
«أحلام»
ركزت صيغ تعبير ودلالات المعرض، بأعماله وأغراضه، على تأكيد جملة حقائق في حرص الحكومة التركية على تمكين مفردات النسيج الإبداعي لدى النساء في المجتمع. وركز بروشور المعرض «احلام»، على إيضاح حقيقة أنه كانت الجمهورية التركية في العشرينات من القرن الماضي، تعتني بإرسال فنانات إلى أوروبا للدراسة والتدريب، كسفراء لتركيا الجديدة. وكانت الصحف التركية تشيد بهن.
ويشير بروشور المعرض في هذا الخصوص، إلى أن إحدى الصحف التركية، كتبت في عام 1928، عن زيارة الرسامة الرمزية مهري موسفيك المولودة في عام 1886 إلى الولايات المتحدة، ولفتت إلى أنها تشكل «دعاية قوية وفعالة في أميركا باسم تركيا والأتراك».
وفعلياً، لم تكن الحياة بتلك السهولة، بالنسبة للرائدات في تركيا ضمن هذا المجال، فالرسامة موسفيك هربت من منزلها فياسطنبول وهي في العشرينات من عمرها، وذهبت إلى روما، ومن ثم عاشت لاحقاً في منطقة مونبرناس في باريس، وأخذت تبيع اللوحات الفنية لتكسب رزقها. ولقد أصبحت قريبتها هالة آساف رسامة، وعملت في برلين وميونيخ وباريس.
حيث وجدت جمهوراً أوسع في الخارج، مما هو في بلادها. وقد توفيت موسفيك في خمسينات القرن الماضي وهي فقيرة، أما لوحاتها فقد بدأت تضمحل من الذاكرة الجماعية لعالم الفن. وكتب كاليكوغلو في بروشور المعرض: «لا زالت معلومات قليلة باقية حول حكايات الحياة الشخصية لهذا الجيل من الفنانات.
ولا وجود لمعلومات واضحة ودقيقة حول أعمالهن». واللافت هنا، انه وحتى بالنسبة للنساء الأكثر براعة بينهن، مثل موسفيك، فإنه يجري ذكرهن «في النصوص التاريخية التي كتبها الرجال في جملة أو جملتين في أحسن حال».
أعمال 74 فنانة
وفي تركيا كما في غيرها، فإن فنانات تلك الحقبة كن أساساً محكومات بأن يصبحن مدرسات رسم، وذلك طبعاً فيما إذا كانت لديهن مهن على الإطلاق. وهناك شح في التوثيق، مثل الكتالوغات أو السير الذاتية، وهو الأمر الذي أوصل فريق القيمين على المعرض الذين جمعوا هذه المختارات من أعمال 74 امرأة، إلى «طريق مسدودة» أحياناً، وذلك بحسب ما أشار كاليكوغلو.
والذي نقلت صحيفة «انترناشيونال هيرالد تريبيون» عنه، قوله: «إن معظم الأعمال التي رسمتها فنانات من أواخر الحقبة العثمانية والفترات الأولى للجمهورية، ضاعت ولم يجر تسجيلها»، موضحاً أنه عند الحديث عن فنانات تلك الفترة فكأننا في متاهة. كما اكد أن أسباباً عدة تكمن وراء عدم بقاء أعمالهن،
ولكن العامل الأهم يعود إلى ان هؤلاء الفنانات لم يدخلن ضمن المجموعات الفنية الشخصية لعصرهن، ولا ضمــن مجموعــة الدولـــة، والتي كانت الراعي الأكبر للفن خلال تلك الفترة. وأضاف: «ان هذا يعود بلا شك إلى جملة من العوامل المتعلقة بالنظرة إلى الجنسين». وطبعاً هذا ليس فقط في تركيا، بل ان فنانات كثيرات كان عليهن مواجهة مشكلات مماثلة في عدد من المناطق المختلفة. ولكن، وعلى الرغم من قلتها.
ولا شك ان هذه النقطة تشير إلى تميز أعمال فنانات ذلك العصر، وما قدمنه من أسلوب جديد في التعبير، وهذا ما تلفت إليه الـ«انترناشيونـــال هيرالد تريبـــيون»، إذ إنه في خمسينات القرن الماضي، كانت فنانات مثل فخر النساء زيد وعلية برغر، تنتج لوحات تجريدية.
وتجد المزيد من الشهرة في حقل كان يعتبر فيما سبق، حكراً على الفنانين الرجال. وقد تميزت أعمالهما، في تجنب التعبير الصريح عن الأنوثة، على نقيض عدد من فنانات اليوم في تركيا، واللواتي يعالجن مختلف المسائل الإنسانية، وقد شكـــل إعطاء هيئة محلفين دولية، لبرغر، تلميذة موسفيك، أعلى جائزة على لوحتها الزيتيـــة الأولى «الشمس تشرق» عام 1954، فضيحة مدوية في تركيا.
واعتبرت الصحيفة، أن المنافسات التي رعاها مصرف «يابي كريديه»، شكلت، أول أوجه دعم القطاع الخاص بشكل واسع النطاق، للفنون في تركيا، حيث تنقل عن مؤرخين قولهم، إن معظم الفنانين كانوا يتعالون على رسومات النساء، باعتبارها رسومات هــواة غير بارعة، وتفتقر إلى الاحتراف، في الوقت الذي أعطاهـــا الخبراء رصيداً لتحررها من المواصفـــات الأكاديمية الجامدة لتلك الحقبة، محفزة حقلاً جديداً من التعبير. وقد دام الأمر حتى تسعينات القرن الماضي، ذلك قبل أن تبدأ الفنانات التركيات بالتركيز على موضوع أدوار المرأة وهوياتها.


