تحدث الفنان ديفيد هوكني، أحد أشهر رسامي بريطانيا المعاصرين، أخيراً، عن انشغاله بإبداع طريقة جديدة في التصوير، تجمع بين الرسم الصيني وتقنياته، وأفكار الروائي الفرنسي مارسيل بروست السردية التصويرية. وذلك في حوار أجرته معه صحيفة التايمز البريطانية، بمناسبة افتتاح معرضه الجديد في الأكاديمية الملكية في لندن: «الصورة الأوسع»، والذي ضم لوحات مأخوذة من المناظر الطبيعية في بريدلينغتون بيوركشاير، ويستمر الى الـ 9 من شهر أبريل المقبل.

 أكد ديفيد هوكني، في حواره مع التايمز، ان الصورة الفوتوغرافية من المستحيل أن تكون بديلاً للرسم، مهما كان مستوى إبداعها، وشدد على أنه مشغول بالعمل والإبداع وآخر ما يعنيه التكريم والجوائز.

تطل في أحدث معارض ديفيد هوكني لوحات حديثة، ولقد منحته الأكاديمية الملكية البريطانية في لندن المساحة كلها ليملؤها بأعماله. وهو يقر بأن المساحة شاسعة بالفعل، خصوصاً كما يشير من باب الغمز من قناة الرسام دميان هيرست وأمثاله، أن كل الأعمال المعروضة هي من إبداع الفنان نفسه شخصياً.

 أخلاقية مهنية

كان يمكن لهوكني الحائز على وسام الاستحقاق البريطاني أخيراً الذي لا يحمله إلا 24 شخصاً، أن يصنع اسمه في مجال فن العارضات لفترة «البوب» في ستينات القرن الماضي، لكن صديقه جون فيتزهربرت يرى التسكع بجانب بركة ماء واتباع حياة سهلة في كاليفورنيا ليسا من صفات هوكني، الذي يتحلى بأخلاقية عمل متشددة.

وإرث يعود إلى نشأته في أوساط الطبقة العاملة في برادفورد. ويقول صديقه: إنه يكرس نفسه لتنفيذ مشروع، ويعمل عليه إلى ان يستنفده، ويرهق نفسه إلى أن يجبر على البقاء في فراشه لعدة أيام، قبل أن يستعيد نشاطه ويبدأ من جديد.

جعل هوكني المناظر الطبيعية الإنجليزية في بردلينغتون في إيست يوركشاير موضوعه المفضل، في هذا المعرض، وكان يكرر دوماً، ان الرسم لا يشمل اليد والعين فقط، بل ينبع من القلب أيضاً. وهذا ما يشدد عليه عندما يقول: «اشعر برباط قوي مع هذه المناظر الطبيعية».

 

إبداع بطعم الماضي

إن أسلاف هوكني كانوا عمالاً مزارعين في القرن التاسع عشر، وقد عمل هو في شبابه، في تلك الحقول أيضاً، في "تكويم الذرة بيديه". والآن عاد إلى تقاليد القرن التاسع عشر بالرسم في الهواء الطلق، مرتدياً قبعة صوفية، وصدرية وحذاء ولينغتون، ومجهزاً بفريق من المساعدين لتنزيل اللوحات عندما تشتد الرياح، وذلك لأنه يريد ان يشعر بأنه أكثر انسجاماً مع موضوعه.

ويقول: إنه يريد أن يرسم بالأسلوب العفوي المتجدد نفسه، ويرى أن الرسم أمر أساسي، وأن تعليم الرسم هو تعليم كيفية رؤية الأشياء، لكن كيف يمكنه التقاط معنى الفضاء الذي طالما أثار فيه المشاعر؟ أو ما الذي يحث الشعور للتنقل عبر البلاد في أحضان تلك المناظر الطبيعية؟ كيف يمكنه ان ينقل للناس الصورة الأكبر؟

وهنا يجيب هوكني: "أنا مأخوذ بقضايا التصوير، وليس كل فنان يعيش تلك الحالة راهناً، ويعود هذا جزئياً لوجود الصورة الفوتوغرافية. والناس يعتقدون ان هذه الصورة الفوتوغرافية تعد كل شيء، لكنني اعتقد انه إذا ما التزمنا بالصورة الفوتوغرافية، فإن الأمر سيكون مضجراً للغاية".

ويوضح هوكني انه يرسم المناظر الطبيعية في يوركشاير، لأنه لا يمكن اخذ صور فوتوغرافية لها، ولأن الكاميرا لا تستطيع التقاط الجمال الموجود فيها، والحصول على هذا الفضاء المثير الذي يحيط بها. وليقول بهذا الشأن: "الكاميرا لا يمكنها ان تحل محل الرسم على الإطلاق". ومن ظن ان صور الكاميرا التي يلتقطها هي جيدة بما فيه الكفاية، فإنه يقول له: "ليست جيدة بما فيه الكفاية، ويمكن صنع أفضل منها".

 الطريقة الأوروبية

يريد هوكني، الذي يناهز الـ75 عاماً، إيجاد طريقة جديدة للتصوير يمكنها أن تصنع صورة تشعر الناس وكأنهم في العالم الحقيقي بشكل أكبر. ولا يفكر بتصوير ثلاثي الأبعاد، فهذا ليس أمراً جديداً، على كل حال. وهو يحكي عن هذه القضايا:«لديهم صور فوتوغرافية ثلاثية الأبعاد منذ عام 1860».

ويبين ان ما يريده هو إدخال البعد الرابع للزمن في عمله. ولذا كان يتطلع بإعجاب إلى الرسم الصيني، ويقول في هذا السياق: «كنت اعتقد، كما معظم الناس بأن كل الرسومات الصينية تبدو متشابهة. لكن الصينيين لم ينظروا إلى العالم من ثقب المخروط إلا الآن، بعد أن سيطرت الطريقة الأوروبية في رؤية الأشياء على العالم».

كانت فكرة الصينيين في النظر إلى العالم كما لو أنهم يسيرون خلاله. ويقول هوكني بهذا الصدد: «تفكيك مخطوطاتهم وحل أحجيتها وإزالة حوافها كل واحد بنفسه، هذا ما أجده مثيراً جداً، ولقد أصبحت طريقتهم تؤثر في رسوماتي، إنها رسومات تتعلق بالعين المتنقلة عبر الزمن».

ويضيف هوكني: "الكاميرا ترى بشكل هندسي، لكننا نرى بشكل نفساني. كذلك، الكاميرا ترى الأشياء على قدم المساواة، لكننا لا نفعل ذلك، إذ هناك تراتبية هرمية في الأشياء التي يراها الناس، وذلك طبقاً للشخص المعني. فإذا كان من المدمنين، فإنك سترى مصدر إدمانه أولاً، فمن هو مثلي على سبيل المثال، يمكن أن تلفت نظره منفضة السجائر أولاً".

الصورة الأكبر التي يحاول هوكني التقاطها، ليست صورة تجري رؤيتها من خلال النافذة، إنما صورة يجري الدخول إليها والتنقل في أرجائها ولعب دور فيها، إلى الحد الذي يجري التعلق بها جسدياً وخيالياً وعاطفياً.

ونجد ان هوكني يرفض الإيحاء بأنه ربما يصنع "عالمه الخاص"، تماماً كما يرفض أي ألقاب وجوائز، ويقول :"أنا لا أبالي بهذا الكلام عن أعظم رسام على قيد الحياة، كما لا اعتقد بأن الحياة تحوم حول الجوائز، فاأنا مشغول بالعمل فقط".

 صمت اللوحة وصرخة الصورة

أصبح ممر «وولدغايت»، الذي يقود الى بريدلنغتون، من الموضوعات الرئيسية لأعمال هوكني، فمعه وضمنه، بدأ في رسم لوحاته التي كبر حجمها إلى الحد الذي اصبح حملها غير ممكن في وجه الرياح والبرد المتطاير.

وفيلمه الجديد قد يكون أكثر ما يثير مشاعره. وهوكني الذي قاد مع فريقه، سيارة جيب محملة ببطارية من تسع كاميرات، إلى وولدغايت، لتصويره، يحكي عن ذلك: "ظن الناس أننا من (غوغل ايرث")، ثم بدؤوا في التساؤل: لماذا نقوم فقط بتصوير الأشجار"؟.

ويضيف: "بعد التصوير، يجري تجميع لقطات الكاميرات.. وهذا يعد نوعاً من الرسم، تماماً مثل (الفوتو شوب) وهو نوع من الرسم، يجري فيه تظهير هذه اللقطات كفيلم على شاشة ذات لوحات متعددة، حيث يشاهد الجمهور الفصول الطبيعية على الشاشات".

وهوكني مأخوذ تماماً بعمله، إلى درجة أنه يلوذ بالصمت، باستثناء صرخات الفرح المتقطعة التي يطلقها. ويقول: "لحاء الشجر هذا يمكن رؤيته كقماش، ولا يمكن ان يرى ذلك في آفاتار. وذاك التنوع الرائع للأعشاب، وأوراق الشجر المذهلة، وهذه الألوان، إنها مصدر فرح كامل". ويوضح أن هناك فارقاً كبيراً بين تلك المصنفات متعددة الأوجه ولقطة صورة واحدة من الكاميرا.

ويشرح وجهة نظره:"هنا الناس يشاركون في العمل، ولا نملي عليهم إلى أين ينظرون، الأمر ليس كما في شبكة (أم تي في) أو في الأفلام، بل ان هناك كثيراً من الأشياء المعطاة للنظر إليها والعمل على تفحصها، تماماً كما يجري تفحص العالم في الحياة الفعلية".

ويضيف: "أحيانا تختار العين التركيز على لوحة واحدة، وأحياناً على العمل بمجمله. ويفترض بالناس تجميع اللوحات معاً وعدم انتظار الكاميرا للقيام بذلك. هكذا ينظر إلى العالم في الحياة الحقيقية".

يؤكد هوكني أن الفكرة التي تقول ان المناظر الطبيعية قد استهلكت، سخيفة كلياً. فالطبيعة لا يمكن أن تستهلك، وهناك كثير من الأشياء التي يتعين رؤيتها، حسبما يقول الرسام الفرنسي بيير بونارد. من المقرر ان تكون القطعة الأخيرة المعروضة في الأكاديمية الملكية، في معرض هوكني، فيلماً آخر متعدد اللوحات، من تصميم واين سليب، حيث يقوم الراقصون باكتساح أرضية صفراء زاهية.

ويدورون حول استديو بدعائم ملونة. ويقول هوكني بهذا الشأن: "هذا اللون يجعل التلفاز الملون العادي مثل الراديو". وهذه هي القطعة التي يبين أنها تشير إلى الدرب الذي سيسلكه مستقبلاً: "نطلق على الاستوديو (بردليوود)". واعتقد أنه يمكن إيجاد قصص كثيرة ونوع جديد من السرد بهذه الطريقة،.

ويأخذ الفنان الفرنسي مارسيل بروست مثالاً على ذلك. وييتابع هوكني: "يمكن الحصول في أعمال بروست على وصف مفصل من اربع أو خمس صفحات، لستارة تأرجحها الرياح، وبكاميرا واحدة لا يمكن الحصول على دراما، لكن بوجود تسع كاميرات يمكن ذلك، ونستطيع القيام بشيء جديد كليا".

 العالم جميل بنظرتنا

يوضح هوكني، في مضمون حديثه، ان كل ما يريد أن يقوله فعليا: "يوجد كثير من الأشياء للنظر إليها، والعالم جميل بحسب الطريقة التي تنظر فيها إليه". وهو يؤكد ان هذه الصورة الجميلة هي ما يسعى إلى إبرازه في معرضه الذي سيستمر حتى الـ 9 من شهر أبريل المقبل.