إذا كن بدينات، جعلهن أكثر بدانة، وإذا كن ظهرن أكثر هزالة، وإذا كن ذوات أجساد مترهلة، فإنه يبالغ في جعلها أكثر ترهلا. هكذا يصف الناقد التشكيلي البريطاني والدرمان جانوتشاك، النساء في لوحات الرسام لوسيان فرويد، واللواتي تحدثن عن تجربتهن في حوار مع صحيفة الصنداي تايمز، شرحن فيه المحن التي أجبرن على الخضوع لها كعارضات.
لم يكن يسعى الرسام لوسيان، بنظر والدرمان جانوتشاك، إلى إغراء عارضاته، فهو لا يأخذهن إلى فندق فخم أو مطاعم راقية، بل يجلسهن على سرير بارد في مستشفى، ويعطيهن بطانية للاستلقاء عليها، وما احبه فرويد كان يقوم به، وحتى الرجال الذين يظهرون متجردين في فنه، يعيشون الإذلال المضاعف في تفحص أجسادهم من جانبه، بدم بارد لا يخضع له المرء مجبرا إلا لطبيب.
وفي شهادات نادرة أدلت بها عارضاته، إحداهن ابنته آني، إلى الصنداي تايمز، يظهر بوضوح كيف غير فرويد حياتهن إلى الأبد.
الوجود الملهم
تتمتع ريا كربين الطالبة السابقة في مدرسة "كامبرويل" للفنون، بشعر أجعد وهو بلون الذرة وبشرة صافية تكاد تخلو من العيوب. وكانت في الـ26 من عمرها، وتعمل في متحف فكتوريا والبرت. وهي عندما لمحت فرويد وشعرت بحماس شديد للإعراب له عن مدى إعجابها بأعماله. وتلقت رسالة بعد فترة وجيزة تقول: "السيد فرويد يريد ان يعرف ما إذا كنت ستجلسين أمامه ليرسمك".
وتذكر أنها كانت قلقة حول ما إذا كان يريدها للجلوس أمامه ليرسمها، وماذا سيكون شعورها حيال ذلك، وقدم لها فرويد الذي كان آنذاك قد بلغ الثمانين من العمر، فنجانا من الشاي. وذهبت إلى الاستديو على مدى سبع ليال. وفقط كان في جيبها أجرة التاكسي التي أعطاها إياها.
وتذكر أنه كان يصحبها إلى المطاعم لكنه يكاد لا يأكل شيئا. وتعتقد انها جلست ما مجموعه 2400 ساعة، من دون ان تتقاضى شيئا، وذلك للوحة قد لا تراها في حياتها مجدداً. وتقول بحزم: "فرويد كان يعتبر أحد أعظم الرسامين في العالم، وأن تصبح جزءا من عمل له، قيمته في تاريخ الفن تعد امتيازا".
حكاية مختلفة
التقت سيليا بول فرويد في عام 1978 في مدرسة "سلايد" للفنون، وكان لها من العمر 18 عاما، وكان هو أستاذا زائرا في الـ55 من عمره. ويرتدي بذلة رمادية جميلة ويدخن سيجارا فرنسيا، وكانت سيليا حديثة العهد بأمور الحياة، وبدأت باكتشاف طريقها كفنانة. لتجده "ملهما"، إذ إن عملها في مجال الرسم اصبح أكثر طموحا.
لم يبدأ فرويد برسم سيليا حيث كان يعمل في استديو في "هولند بارك"، إلا بعد مرور سنتين. وكانت سيليا قد نشأت في منزل تصفه "بالمتزمت"، ولم يكن هناك أي شيء يمكن أن يهيئها لما هو آت. وتقول إن أول رسمة لها، كانت عديمة الرحمة، حيث شعرت بجسدها كما لو انه تحت المجهر، وتقول: "كانت هناك قوة باردة في عمله". ولكنها ترى في المقابل صورا رقيقة بين لوحاته أيضا.
وتشير سيليا إلى صور والدة فرويد التي رسمها عندما كانت تشعر بالكآبة بعد وفاة والده في سبعينات القرن الماضي. وكذلك لوحة "الفتاة في المنامة المخططة". تقول: "إنها صورة صغيرة، استغرق إنهاؤها سنتين، وذلك من عام 1983 إلى عام 1985، وخلال ذلك حملت بابننا فرانك في عام 1984".
ولكن سيليا وجدت نفسها بعد ميلاد فرانك غير قادرة على الاستمرار في هذا العمل. والمرة الأخيرة التي رسمها فرويد، كانت في لوحة "الرسام والعارضة". ومن ثم افترق كل من سيليا وفرويد بعد ذلك بفترة وجيزة، لكن أجوبتها تدل على أنها كانت لاتزال أسيرة الرجل الذي غير حياتها بشكل كبير.
«لا» المثيرة للندم
ولدت آني فرويد عام 1948، وذلك عندما كان لوسيان في الـ 25 من عمره. واللوحات المشحونة نفسيا لوالدتها، كيتي غارمان، تهيمن على تلك الفترة من حياتها. ولوحة "الفتاة مع الزهور" عام 1947-1948، التي رسمها عندما كانت حاملة بآني، نفذها بجمالية وتبدو كرسمة تأملية، واللوحة الأخرى بعد ثلاث سنوات وهي حاملة بآنابيل "الفتاة مع الكلب الأبيض" عام 1950-1951، تظهر كيتي كئيبة، بل مجنونة قليلا.
وقد انفصل فرويد وغارمان بعد أقل من سنة، وذهبت آني وآنابيل للعيش مع جدتهما وجدهما لأمهما النحات جايكوب ابستاين. وآني أيضا حفيدة لوسي وأرنست فرويد، الابن الثاني لسيغموند فرويد. وعلى الرغم من العلاقة الضعيفة بين الوالدين، تصف آني فرويد بأنه أب مخلص يهتم بها ومبهور بتطورها. وهي تلوم نفسها قائلة: "كنا نمشي متماسكي الأيدي. وكان يسألني عما إذا كنت قد اشتقت إليه، وكنت أجيب بـ"لا"، وانا أندم على ذلك كثيرا، لكن قول "نعم" كان إقرارا بألمي".
وفي عام 1961 ولدت لفرويد ثلاث بنات، هن: بيلا وإيزوبيل ولوسي، وقد ازدادت بعدها حياته تعقيدا مع بلوغ عدد أبنائه وبناته الـ 15 فردا، يتقاتلون للحصول على الاهتمام والوقت، لكن ظلت آني لسنوات قليلة بمفردها، ولاتزال تحتفظ بذكريات عزيزة على قلبها لأبيها كشاب بوجه مشرق.
وفي تلك الأثناء، التقى فرويد صديقه فرانسيس بيكون، الذي كان له تأثير كبير في طريقة عمله. وتذكر آني أن بيكون كان الثابت في حياته، أما النساء فكن يتغيرن باستمرار. وعندما كانت آني في الخامسة من عمرها تزوج فرويد من ليدي كارولين بلاكوود. وعندما بلغت سن المراهقة بدأ فرويد علاقته مع بليندا لامبتون، عارضته المفضلة ذات الجمال الآخاذ، تقول آني: "كنت اعشق "بايندي" وكان منزلهما كبيرا مع سائقين وخادمات وغيره".
وكان فرويد في حينها يعمل في "كلارندون كريسنت" بباديغنتون، في منطقة تبدو شديدة البؤس بالمقارنة مع منزله الجديد. وتقول آني: "كانت الروائح النتنة في الشارع رهيبة، لكنه بالنسبة لفرويد، كان منزله، ولقد أعطاه بعضا من الخصوصية.
وكان الإيجار متدنيا، والغرف التي اختارها للرسم كانت مثل الناس الذين اختار رسمهم، وكان يحبه كذلك". ويبدو ان فرويد صقل لاحقا هيئة تنم عن إهمال، ذلك أن آني تكي عن هذا: "قمصان مصنوعة من أجود القماش القطني في خزائنه".
ولا توجد على الحائط في منزل آني صور لشخصية فرويد، كانت هناك صورة صغيرة لرسمة "آني" عام 1962. وكانت حينها في الـ 13 من عمرها بوجنتين متوردتين وشعر سميك لامع، وفي المرة الأخيرة التي جلست لوالدها كي يرسمها، كان عمرها 26 عاما. وعندما بلغت منتصف الثلاثينات من عمرها، اختلفت معه، ولم تره لمدة عشر سنوات، وتقول: "لم يكن يهتم بكآبة الآخرين، وكانت العلاقة دوما بناء على شروطه".
وفي نهاية حياة فرويد، جرى التسامح حيال كل ما مضى. وتذكر خلال زيارة إلى منزله قبل وفاته بقليل، أنه كانت هناك نسخة لمجلة "فوغ" إلى جانب سريره، وأنه أخبرها كم يسره النظر إلى مجلات الأزياء، وتقول: "بعد الكثير من الواقعية، قال إنه يرى الصور الطاهرة اللامعة مهدئة للنفس".
إخلاص للثقافة الشعبية
تعرفت سو تيلي وهي في الـ54 من عمرها، على فرويد، على يد الفنان ليخ باوري، الذي توفي في عام 1994. وجلست لأربع لوحات ورسمتين، بين الفترة 1992 و1996، وقضت أوقات فراغها في استديو لوسيان. وتقول بهذا الشأن: "كنت اذهب إلى مرسمه كل ليلة، وكل نهايات الأسبوع".
وهي إحدى العارضات القلائل اللاتي تلقين مالا مقابل العمل مع فرويد. ولقد دفع لها 20 جنيها استرلينيا في اليوم. ومن ثم رفع المبلغ إلى 33 جنيها، وهذا يبدو قليلا جدا، بالنظر إلى كون اللوحة التي رسمها بلغ سعرها 17 مليون جنيه استرليني عام 2008. وهي بعنوان "مشرفة الاستحقاقات النائمة"،.
وهو أعلى سعر للوحة في التاريخ، لفنان على قيد الحياة. كما تشير إلى انه كان مدهوشا بالتشققات والبقع على جسدها والتي كانت بنظره "علامات لإمرأة عاشت حياتها". وتضيف: "كان يغضب بشدة عندما أتأخر، يطعن نفسه بفرشاة الرسم". وكانت تحب قصصه الفظة، وتصفه بأنه ثرثار كبير.
واللوحة الأولى التي جلست سو لرسمها فيها، كانت "ليلة في الاستديو". ولكن تجد سو الصورة "منفرة". وتقول: "أبدو رهيبة، ولقد استغرق إنجازها تسعة شهور، وكنت في حالة من العذاب طوال الوقت". وتسلط سو الضوء على نساء فرويد، فتقول: "نوع النساء اللاتي اعجبنه كن نساء طبيعيات جدا، هادئات جدا، لم يكن يعجبه صبغ الشعر...".
وترى صحيفة الصانداي تايمز، أن فرويد كان مخلصا للثقافة الشعبية، بينما كان يتظاهر بأنه لا يعرف شيئا عنها، فإحدى عارضاته سو تيلي تقول: "كان يحصل على سبع صحف في اليوم، بما في ذلك صحيفة ميرور". وكان يحب الناس المتألقين والبراقين، فقد دعا جيري هول للجلوس أمامه في عام 1997، وكيتي موس في عام 2003.
وتصف سو بناته فتقول:
"بعضهن دون جديات وحزينات، وهو لم يكن كذلك، وربما هو جعلهن هكذا". وتتابع: " كنا نجلس في مقهى "ريفير" في أحد الأيام، فنظر حوله، وقال: "الحمد لله أنني لست رجل عائلة". فقلت له: "لا، فرويد، أنت رجل عائلات".
عمل فرويد في السنوات العشر الأخيرة من حياته، ضمن استديو قريب من منزله في كنسنغتون، وكان قد اصبح شخصية أيقونية بوشاحه المحبوك وحذائه الذي يتناثر عليه الطلاء.
