مدارات مفتوحة

هدى شعراوي.. قصة تاريخ مجيد في نضال المرأة العربية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يذكر اسم هدى شعراوي بتاريخ مجيد في نضال المرأة العربية من أجل تحررها وانعتاقها، ومن أجل أن تحتل الموقع الذي يعود لها في المجتمع. إلا أن هدى شعراوي، على أهمية الدور الذي لعبته في هذا النضال في مصر خصوصاً، لم تكن الرمز الوحيد لهذا النضال. بل شاركتها في هذا الموقع شخصيات نسائية من نوع ما تميزت به شعراوي من جرأة، ومن كفاحية. وبعض هذه الشخصيات كن قد سبقنها في اقتحام هذا الميدان الصعب والمعقد من النضال. وهو نضال لم ينته، ولم تصل المرأة فيه إلى ما تحلم بتحقيقه، ويحلم المجتمع العربي بتحقيقه. إلا أن ما كان قد تحقق في فترات سابقة من إنجازات عاد فانتكس في فترات لاحقة.

وتعيش المرأة العربية، في عالمنا العربي المعاصر، بعض النتائج المريرة لهذه الانتكاسات. وإذ أعيد التذكير بهدى شعراوي اليوم وبالدور البطولي التي لعبته من أجل تحرير المرأة المصرية والعربية، فلأنني أرى أن على النخب الثقافية والسياسية، التي تنتمي إلى عالم الحرية والديمقراطية والتحرر الإنساني، أن تمارس دورها في الدفاع عن المرأة العربية في مواجهة التمييز الذي يمارس ضدها وعلى هذه النخب أن تسهم في النضال معها لتحريرها من الواقع الراهن الذي تعيشه أسيرة تقاليدنا القديمة البالية. وإسهام هذه النخب الثقافية والسياسية من الديمقراطيين العرب إنما يتم من خلال جعل قضية المرأة واحدة من كبريات القضايا في عملهم السياسي والثقافي والاجتماعي.

ارتبط اسم هدى شعراوي في الربع الأول من القرن الماضي بالنضال على جبهتين: جبهة النضال لتحرير المرأة، وجبهة النضال من أجل استقلال مصر. وتميزت في الجبهتين بجرأة نادرة وبكفاحية غير مسبوقة في عالم المرأة المصرية والعربية في ذلك التاريخ، وباستقلالية في الموقف لم تتردد، بالاستناد إليها، في التعارض والتناقض مع سعد زغلول، زعيم الحركة الاستقلالية وهو في عز مجده. إذ انتقدت موقفاً له من الإنجليز اعتبرته تنازلاً غير مبرر وغير مقبول من زعيم البلاد أمام المستعمرين. وتروي شعراوي في مذكراتها تفاصيل طريفة عن جرأتها في النقاش والاختلاف مع سعد زغلول، وعن تعامل الزعيم المصري معها بكثير من الاحترام.

وتقدم الأديبة المصرية أمينة السعيد في المقدمة التي وضعتها لمذكرات هدى شعراوي شهادة مهمة لهذه الشخصية التاريخية تقول فيها: «هدى شعراوي هي بلا منازع قائدة حركة تحرير المرأة في العالم الإسلامي قاطبة. ولقد قضت ما لا يقل عن خمسين عاماً من حياتها وهي في صراع مرير من أجل رفع الظلم عن المرأة المسلمة عموماً، والعربية بوجه الخصوص وكانت البادئة برفع الحجاب، والمناداة بالمساواة الكاملة بين الجنسين، لتمكين نصف الشعب العربي من الخروج عن عزلته الاجتماعية والانطلاق إلى عالم البناء والإنتاج.... لقد خاضت هدى شعراوي مجال السياسة الذي لم تكن تجرؤ على الاقتراب منه امرأة قبلها».

ومذكرات هدى شعراوي هي من أجمل كتب السيرة. فهي تتميز بالبساطة، وبالسرد غير الممل لأحداث حياتها ولأحداث الحقبة التي عاشت فيها. وتضم، إلى جانب ذلك، مفاصل أساسية من كفاح المرأة المصرية والعربية والإسلامية دفاعاً عن حقوقها، وعن الإنجازت التي تمكنت من تحقيقها.

ولدت هدى شعراوي في عام 1879. وقد توفي والدها محمد سلطان باشا وهي كانت لا تزال في الخامسة من عمرها. وحصلت الوفاة، كما تروي في مذكراتها، وهو في طريق عودته من النمسا حيث كان يخضع للعلاج. وقد شكلت وفاة والدها الصدمة الأولى التي واجهتها في حياتها.

وكان والدها شخصية مرموقة شغل في حياته مناصب رسمية عديدة، أهمها منصب رئيس مجلس النواب ثم رئيس مجلس شورى القوانين، ثم قائمقام خديوي. وتروي شعراوي بعض التفاصيل الغريبة، بالنسبة إليّ، عن عرابي، وعن ثورته، التي تتهمه فيها بالشطط، وبكثرة الأخطاء، استناداً إلى ما ترويه عن خلافات نشأت بين والدها وعرابي.

كانت في التاسعة من عمرها عندما ختمت القرآن. لكنها لم تستطع، كما تقول في مذكراتها، من قراءة أي كتاب غير القرآن. ثم تعلمت اللغة التركية وعملت بدأب على تثقيف نفسها. فكانت تشتري الكتب من الباعة المتجولين خلسة، لأن تعليم المرأة وتمتعها بالثقافة والمعرفة كانا من الأمور غير المرغوبة في الأسر المحافظة. لكنها مع ذلك تابعت كفاحها من أجل التعلم ومن أجل امتلاك المعرفة. وقد أضافت إلى امتلاكها اللغة التركية لغة جديدة هي اللغة الفرنسية، ثم فيما بعد اللغة الإنجليزية.

زواج غريب

وتروي شعراوي في المذكرات قضية زواجها الغريب الذي فرض عليها وهي في الثالثة عشرة من عمرها. إذ تقدم إليها رجل طاعن في السن ومتزوج وعنده أولاد. وقد قاومت بكل طاقاتها ذلك الزواج. لكنها فشلت، وأذعنت في نهاية المطاف، وتزوجت منه، وأنجبت ابنة. وقصة ذلك الزواج غريبة. فهي عانت كثيراً في مواجهة الزواج، وخلال ارتباطها بزوجها، ثم في انفصالها عنه بمساعدة والدتها، ثم بعودتها إليه.

ولعل هذا الزواج ذاته، في مراحله المختلفة، ومعاناتها فيه، هو الذي أسهم في بناء شخصيتها المتمردة، التي حولتها مع مرور الأيام وتعاقب الأحداث في مصر وفي العالم إلى زعيمة كبيرة ومتميزة لحركة تحرير المرأة منذ وقت مبكر، ضد التقاليد القديمة السائدة، وضد النظام السائد وضد قوانينهما الجائرة.

إلا أن هذه الشخصية المميزة لشعراوي إنما كانت تتكون بالتدريج وسط الأحداث ووسط صعوبات الحياة، حياتها هي، لا سيما معاناتها مع ابنتها التي ولدت مريضة، وحياة المرأة المصرية، وحياة الشعب المصري في كفاحه من أجل تحرره من الاستعمار وتحقيق استقلال مصر.

وتتوقف شعراوي في المذكرات عند حدث تاريخي في حياة مصر هو تأسيس الجامعة المصرية في عام 1908، الحدث الذي شكل بداية نهضة علمية وأدبية وثقافية عامة في مصر، أسهمت في تحويل مصر إلى مركز متقدم في العالم العربي في هذه الميادين جميعها.

وما أكثر الرموز العلمية والأدبية التي عبّرت عن هذه النهضة الكبيرة. وتشيد شعراوي على وجه الخصوص بدور الأديبة المصرية ملك حفني ناصف التي عرفت باسم «باحثة البادية»، لا سيما المحاضرات التي كانت تلقيها في الجامعة بعد تأسيسها. ومعروف أن «باحثة البادية»، هي واحدة من رائدات الحركة النسائية قبل هدى شعراوي، بإقرار شعراوي وبكثير من التقدير لها ولأخريات معها وقبلها مثل اللبنانيتين زينب فواز ومي زيادة.

إرتياد الآفاق

سافرت هدى شعراوي، في العام الذي تلا تأسيس الجامعة، مع عائلتها إلى أوروبا. وساحت في بلدان القارة. وتعرفت إلى معالمها، وإلى حضاراتها وثقافاتها. وأسهم ذلك في تعميق ثقافتها، وفي تكوين عناصر التمرد والثورة في شخصيتها، ارتباطاً بما كان يجري في بلدها مصر، في المجالين السياسي والإجتماعي. وحين عادت من رحلتها إلى أوروبا وجدت بلدها مصر في حالة غليان.

وكان من أهم ما كان يحصل في تلك الحقبة من تاريخ مصر هو تعاظم النضال من أجل الاستقلال. هذا النضال الذي سرعان ما تحول إلى ثورة في عام 1919، كان يقودها سعد زغلول. وكان هذا النضال يترافق مع بروز نهضة أدبية كانت تشارك فيها شخصيات نسائية مرموقة، في مقدمتهن «باحثة البادية». وقد شجعتها تلك الحركة الأدبية على التفكير بتأسيس ناد أدبي للسيدات يجتمعن فيه للبحث في الشؤون الأدبية والاجتماعية.

وإذ لقيت فكرتها الترحيب دعت إلى تأسيس ذلك النادي. واستعانت في تأسيسه بالكاتبة الفرنسية مارغريت كليمان التي كانت قد التقت بها قبل ذلك. فجاءت إلى مصر تلبية لدعوة من شعراوي، وعقدت في منزلها بحضور عدد من الأميرات أول اجتماع تأسيسي لذلك النادي، الذي تشكل تحت اسم «جمعية الترقي الأدبي للسيدات». وشاركت فيه مي زياده. واختيرت لبيبة هاشم صاحبة مجلة «فتاة الشرق» لتكون سكرتير اللجنة التأسيسية.

وتتحدث هدى شعراوي في مذكراتها باعتزاز عن دورها ودور المرأة المصرية في ثورة 1919، التي أعقبت نفي سعد زغلول ثم بعد عودته من المنفى. وتذكر، على وجه الخصوص، كيف أنها فازت بأكثرية الأصوات في انتخاب «اللجنة المركزية للسيدات» التي شكلت بمساعدة اللجنة المركزية للوفد المصري في النضال من أجل الاستقلال. ثم انتخبت رئيسة لتلك اللجنة.

وكان من أوائل ما قامت به تلك اللجنة، التي تحولت فيما بعد إلى «الاتحاد النسائي المصري»، إصدار بيان يحدد بوضوح مطالب المرأة المصرية. وهذه المطالب هي كما جاءت في البيان: «1 ـ مساواة الجنسين في التعليم وفتح أبواب التعليم العالي وامتحاناته لمن يهمها ذلك من الفتيات تشجيعاً لنبوغ من لها مواهب خاصة، وتسهيلاً للتكسب لمن تحتاج منهن ورفعاً لمستوى العقلية العامة في البلاد.

2 ـ تعديل قانون الانتخاب باشتراك النساء مع الرجال في حق الانتخاب ولو بقيود في الدور القادم، كاشتراط التعليم أو دفعها نصاباً معيناً على ما لها من الملك. ولا يكون من الإنصاف الاعتراض على اشتراك هذه الطبقة من النساء لا سيما وقانون الانتخاب يجعل للرجل الأمي والخالي من الملك حقاً في أن ينتخب وينتخب.

وليس من المعقول ولا من العدل وأغلبية الرجال كذلك أن تحرم المرأة مع الشروط المتقدمة من المساواة بمثل هذا الجمهور من الرجال. 3 ـ إصلاح قوانين الزواج وذلك: أ ـ بسن قانون يمنع تعدد الزوجات إلا لضرورة كأن تكون الزوجة عقيماً أو مريضة. ب ـ بسن قانون يلزم المطلق أن لا يطلق زوجته إلا أمام القاضي الشرعي».

مسيرة الريادة

ومنذ ذلك التاريخ بدأت هدى شعراوي مسيرتها الجديدة كرائدة حركة نهضة المرأة في مصر وفي العالم العربي. وكان من أوائل نشاطها في عام 1923 تلبية الدعوة التي وجهت إليها لحضور مؤتمر الاتحاد النسائي العالمي الذي عقد في روما. لكن شعراوي لم تشأ أن تكون هي من تمثل لوحدها نساء مصر في ذلك المؤتمر. إذ كانت تريد أن يكون التمثيل باسم نساء مصر وبمشاركة شخصيات نسائية أخرى.

لذلك وجهت رسالة إلى عدد من الشخصيات النسائية دعتهن فيها إلى اجتماع لتأسيس الاتحاد النسائي المصري. وعقد الاجتماع وانتخب وفد نسائي مصري بقيادتها إلى ذلك المؤتمر. وصار الاتحاد المصري عضواً في الاتحاد العالمي. وكان ذلك حدثاً مهماً في تاريخ الحركة النسائية المصرية. وهكذا بدأت شعراوي في نضالها الجديد على رأس حركة نسائية قوية من أجل انتزاع حقوق المرأة، كمهمة أولى، والمشاركة، في الوقت عينه، بقوة في الحركة الوطنية المصرية، جنباً إلى جنب مع الرجل.

وتوالى حضور هدى شعراوي على رأس الوفود النسائية إلى المؤتمرات العالمية بعد أن كانت قد انتخبت في المؤتمر العاشر للاتحاد النسائي العالمي عضواً في لجنته التنفيذية ممثلة للنساء في الشرقين الأدنى والأقصى. وأهمية مشاركة المرأة المصرية في تلك المؤتمرات إنما تكمن في أنها ساهمت في توضيح وتحديد المهمات التي تتصل بنضال المرأة المصرية من أجل الوصول إلى حقوقها. يضاف إلى ذلك أن تلك المشاركة قد وضعت المرأة المصرية، والعربية كذلك، في صلب النضال من أجل القضايا العالمية الكبرى، وفي مقدمتها قضية السلم العالمي، إضافة إلى ما كانت قد بدأت تمارسه في النضال الوطني من أجل الاستقلال.

سافرت هدى شعراوي إلى جهات العالم الأربع، في أعقاب ذلك المجد الذي حققته لشخصها وللمرأة المصرية والعربية. وكانت تهتم في سفراتها في أمرين، طرح قضية المرأة في بلادها، إلى جانب القضية الوطنية، والتعلم مما كانت تتعرف إليه من أمور ذات صلة بوضع المرأة في البلاد الأخرى، ومن ثقافات تلك الشعوب ومن إنجازاتها.

مؤتمر نسائي

إلا أن شعراوي كانت، وهي تتقدم في طرح قضية المرأة في مصر وفي العالم العربي، كانت تذكّر على الدوام بالدور الريادي لقاسم أمين، رائد الدفاع عن حقوق المرأة، من دون أن تنسى دور السيدات اللواتي سبقنها في حمل راية الدفاع عن حقوق المرأة. لكن قاسم أمين كان الرمز الأكبر الذي كانت تتذكره مع زميلاتها، وكانت تحتفل في مناسبات عدة بذكراه إشادة بدوره الريادي.

واستناداً إلى ما تكوّن عند هدى شعراوي من تجارب في نضالات المرأة المصرية، ومن خبرات اكتسبتها في سفراتها إلى الخارج ومن مشاركتها في المؤتمرات النسائية العالمية، توصلت في عام 1944 إلى الإسهام مع زميلات لها في العالم العربي إلى عقد مؤتمر الاتحاد النسائي العربي الذي حضرته مندوبات من عدد من البلدان العربية. وأحدث انعقاد المؤتمر صدى كبيراً على الصعيدين العربي والدولي، إلى الحد الذي جعل زوجة الرئيس الأميركي روزفلت تبرق إلى هدى شعراوي مهنئة إياها بانعقاد ذلك المؤتمر.

وجدير بالذكر ونحن نتحدث عن دور هدى شعراوي وعن دور الحركة النسائية المصرية خصوصاً، أن نشير إلى أن قضية التحرر من الحجاب كانت من أول الإنجازات التي حققتها تلك الحركة منذ البدايات. ومعروف أن سعد زغلول هو الذي بادر، لدى عودته من المنفى في عام 1920، عندما استقبل المهنئين، إلى نزع النقاب عن وجه هدى شعراوي. وصار ذلك التاريخ يؤرخ به كبداية في نضال المرأة من أجل تحررها، ليس لأن السفور كان هدفاً بذاته، بل لأنه كان شكلاً من أشكال التعبير عن معنى المساواة بين المرأة والرجل، ومؤشراً إلى بدايات تحررها، وإلى الانتقال للعب دورها في المجتمع أسوة بالرجل، في كل ميادين النشاط السياسي منه والاجتماعي والثقافي وسوى ذلك من الميادين.

وكان من أهم ما قامت به هدى شعراوي في نضالها لإبراز دور المرأة في الحياة الاجتماعية هو إصدارها في عام 1925 مجلة «المصرية» بالفرنسية التي سلمت رئاسة تحريرها إلى سيزا نبراوي، تلميذة شعراوي وصديقتها ومكملة رسالتها بعد وفاتها. وقد أتيح لي أن أتعرف إلى هذه السيدة المحترمة في أواسط ستينات القرن الماضي، إذ كانت تشارك في مؤتمرات مجلس السلم العالمي الذي كنت في ذلك الوقت أحد المسؤولين في هيئاته القيادية. واستمرت العلاقة معها على امتداد حياتها. وهي كانت معروفة بانتمائها منذ وقت مبكر إلى الحركة اليسارية المصرية.

مجلة «المصرية»

لقد كان لمجلة «المصرية» حضور كبير في مصر وفي الخارج. وهي كانت مجلة شهرية نسائية تهتم بالقضايا الاجتماعية وبالفن. وهو التعريف الذي وضع للمجلة تحت عنوانها مباشرة. وكانت تضم أعدادها مقالات تتناول مجمل القضايا التي تعالجها أية مجلة من المجلات التي كانت تصدر في مصر. وكان من بين تلك القضايا ما يهم قضية المرأة، حقوقها ونشاطاتها والبيانات التي كانت تصدر عن الهيئات النسائية العالمية، وعن الاتحاد النسائي المصري، وكذلك بعض خطب هدى شعراوي. وفي عام 1937 صدرت المجلة باللغة العربية.

رحلت هدى شعراوي في عام 1947. وتركت للأجيال تاريخها وتراثها الغني، الذي يتمثل بالنضال بدون هوادة دفاعاً عن حقوق المرأة. كما يتمثل بالمواقف الجريئة التي جاءت في محاضراتها وفي مقالاتها وفي البيانات التي أصدرتها. وأقتطف فيما يلي بعض ما جاء في تلك المواقف في بعض محاضراتها نقلتها من الجزء الثاني من الكتاب المهم الذي أصدرته الباحثة السورية جورجيت عطية في جزأين تحت عنوان «هدى شعراوي ـ الزمن والريادة».

تقول في خطاب لها نشر في العدد الخامس عشر من مجلة «المصرية» في عام 1926: «دخلت المرأة المصرية الحياة العامة من باب السياسة، لأننا في الوقت الذي كنا نفكر فيه في إصلاح حال المرأة وتنويرها، قامت ثورة 1919. وكان حتماً أن يقف كل مصري ومصرية في صفوف الثوار حتى تنال بلادنا استقلالها وحريتها، وتكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في أمورها ومستقبلها... وبعد أن استقرت الأمور بعض الشيء في عام 1926، كان علينا أن نتجه بالجهد الأكبر إلى المجال الاجتماعي وأن نهتم بالقضايا الاجتماعية والنسائية باعتبار أن المرأة هي نصف مجموع الأمة، وكل ما تحققه ينعكس على الحياة العامة ويدفع إلى تطور المجتمع».

وتختم كلمتها بعرض أحد ثلاثة أمور تتعلق بالمرأة، الثالث منها هو: «...مشروع تقرير نرغب في عرضه على الوزارة، يتضمن طلب إصلاح خمس مسائل كبرى تخص المرأة، وهي: 1 ـ وضع حد لتعدد الزوجات، 2 ـ وضع حد لفوضى الطلاق الحاصلة الآن، 3 ـ إصلاح القوانين الخاصة بما يسمى دار الطاعة، 4 ـ حق الأم في حضانة أولادها، 5- إلغاء منشور سنة 1924 المعطل لقانون تحديد سن الزواج».

وتقول في نداء إلى نساء الشرق نشر في العدد 39 من المجلة في عام 1938: « فباسم العدل والإنسانية أهيب بكل الجمعيات النسائية وغيرها من مختلف الأديان والجنسيات أن تناصرنا وتمد إلينا يد المساعدة مساهمة في أداء هذا الواجب الإنساني الجليل بإيفاد مندوباتها للاشتراك معنا في هذا المؤتمر الذي قررنا عقده بالقاهرة في الأسبوع الأول من أكتوبر المقبل. وسنبحث فيه مشتركات «مشكلة فلسطين، وطرق معالجتها بقرارات ترسل إلى الجهات الإنجليزية المختصة التي نعتقد أنها ستصغي إلى آراء الناصحين المرشدين مكتفية بما قد أريق من دماء بريئة في بلاد هي مسؤولة عن الأمن فيها ومنتدبة لحماية أهلها».

سيرة مشرفة

هذه هي هدى شعراوي رائدة حركة تحرير المرأة. وهذا هو تراثها النضالي في القول وفي العمل. والسيرة المشرقة لهذه المرأة المناضلة الشجاعة المقدامة إنما تطرح سؤالاً حقيقياً مليئاً بالمرارة يتعلق بوضع المرأة المصرية والعربية في الوقت الراهن. جوهر السؤال هو أن الواقع الراهن للمرأة يتناقض مع كل ذلك التاريخ المجيد لحركة تحرير المرأة، الذي كانت قد ساهمت فيه هدى شعراوي وسيزا نبراوي وقبلهما زينب فواز، ثم مي زيادة ونظيرة زين الدين وباحثة البادية ودرية شفيق وسهير القلماوي وأمينة السعيد وكثيرات غيرهن في مصر وفي العالم العربي.

لقد تبددت الكثير من تلك الإنجازات التي حققتها تلك الحركة الرائدة. فمن المسؤول؟ أهي المرأة العربية، أم هي النخب السياسية والثقافية العربية، أم هي أنظمة الاستبداد التي أخرت بلداننا وفاقمت تخلفها، أم هي سياسات القوى السلفية والظلامية، التي استفادت من الهزائم السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تتحمل مسؤوليتها الأنظمة العربية السائدة، لتعمم الجهل، ولتنشر في المجتمع البدع والخرافات والغيبيات وتستنفر الغرائز البدائية لدى الكثرة الجاهلة من الناس؟

المسؤولية تتحملها جميع هذه القوى، كل بحسب موقعه في الحياة السياسية والاجتماعية وبحسب موقعه في مراكز القرار في سلطة الدولة وفي السلطة الموازية في المجتمع. كما تتحمل المسؤولية قوى التغيير التي لم تستطع، إما بسبب نقص في برامجها أو بسبب ممارساتها، أن تحقق ما بشرت به وناضلت من أجله في اتجاه تحرير المجتمع وتحرير المرأة.

لذلك فإن التذكير بهدى شعراوي وبزميلاتها في حركة تحرير المرأة، ابتداء من نهايات القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين، إنما يرمي إلى الدعوة لإطلاق حركة جديدة للتحرر والتقدم، يندمج فيها الدفاع عن حقوق المرأة بالنضال لتحرير بلداننا من أسر هذا التخلف المهيمن عليها، ووضعها على طريق الحرية والتقدم، والدخول في إنجازات العصر من أبوابها الواسعة

كريم مروة

Email