اللغة العربية من سيبويه إلى العربيزي.. 2- 3

ت + ت - الحجم الطبيعي

سألني أحد القراء، أمس، عن سبب اختياري لسيبويه عنواناً لمقالي بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، فأجيب عن سؤاله فأقول: إن سيبويه ولد في شيراز في أسرة لا تعرف اللغة العربية وإنما تعلمتها بعدما انتقلت إلى البصرة، وبقي سيبويه إلى يوم وفاته وفي لسانه «حبسة»، ومع هذا فإن سيبويه قدم للأمة العربية كتاباً من أهم الكتب في علم اللغة العربية، وإذا ذكر «الكتاب» في كتب اللغة، فإنهم لا يعنون بذلك إلا كتاب سيبويه، هذا الرجل العالم الأعجمي، قدم لنا ما لا يمكن لنا أن نشكره عليه، سوى أننا نترحم عليه ونسأل الله له الجنة.

وفي مقابل هذا، نجد الشباب العربي يستخدم ما يسمى «العربيزي» استهتاراً واستخفافاً بلغتهم، لغة عزهم وفخرهم ومجدهم وتاريخهم، ولمن كان لديه شك في عظمة لغته وانهزامه إلى اللغات الأخرى، فأود أن أذكر ما قاله الغربيون عن لغاتنا، حيث تعلّق قلب عميد الأدب الألماني «جغوته» (1832 - 1749) باللغة العربية وآدابها واهتم بها، فقال: «نجد عند العرب كنوزاً رائعة في المعلقات، وأنّ العرب يولدون شعراء وينشؤون كذلك»، وفي ديوانه (الشرقي للمؤلف الغربي) نصٌّ جميلٌ ومؤثرٌ، ووصفٌ رائع للعرب يدلُّ على منزلتهم عنده وعلو قدر لغتهم وأشعارهم، فيقول يذكر المنن الأربع: «لكي يسعد العرب في صحرائهم راتعين في جمال الفضاء؛ حباهم الله ذو الخير أربع منن: العمامة وهي زينة أروع من التيجان كافة، ثم خيمة يحملونها من مكان إلى مكان حتى يعمروا بها كل مكان، ثم حسام بتّار وهو أمنع من الحصون وشاهق الأسوار، ثم القصيد الذي يؤنسهم ويفيدهم، ويستهوي أسماع الغواني».

كما قال المؤرخ اللغوي الإيطالي كارلو ألفنسو نينو (1938-1878) - عن لغتنا الخالدة: «اللغة العربية تفوق سائر اللغات رونقاً، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها». أما المستشرقة الألمانية زغريد هونكه (1999-1913) التي عاشت طيلة حياتها تهيم بالشرق وتدافع عن العرب وعن تاريخهم فتقول: «كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى في حبها من سحر هذه اللغة».

بعد هذا دعوني أحدثكم عن دوجلاس دنلوب – الذي ولد في اسكتلندا 1860 م، وتخرج في القسم اللاهوتي في إحدى كلياتها، وجاء إلى مصر مبشراً 1889 م. ووضع المخطط الأساسي لتغريب التعليم والتربية وإقصاء الإسلام عن برامج التعليم في المدرسة المصرية، باعتبار أنّ التعليم والتربية لهما أكبر الأثر في مخطط التغريب والشعوبية والتبشير والاستشراق، إن لم تكن هي جوهر هدف الاستعمار الأساسي. وكانت أبرز أعماله محاربة اللغة العربية والإسلام والأزهر، ونشر لواء اللغة الإنجليزية وتأهيلها للسيطرة الكاملة على كل شؤون التعليم للقضاء على نفوذ اللغة العربية، ولقد مضى في ذلك إلى حد أنّه جعل تعليم سائر العلوم كالرياضيات والتاريخ والكيمياء والجغرافيا والرسم باللغة الإنجليزية، وضيق على اللغة العربية تضييقاً كبيراً.

 وممّا يذكر أنّه كان يستقدم معه عدداً كبيراً من الإنجليز حملة الشهادات الأهلية، وقد اختارهم بنفسه، وكان أبرز كتابات هؤلاء المدرسين الكراهية للغة العربية والعداء للحرية ومحاولة تحطيم آمال الأمة العربية وتغريب التلاميذ واتهام تاريخ العرب والمسلمين، وإثارة الشكوك حوله، واتهام الحضارة الإسلامية العربية بالاتهامات المختلفة. وقد استمر هكذا حتى سنة 1919، لنتخيل كم من الأجيال ضاعت بسبب ما صنع هذا المبشر، وقد ذكر كرومر في تقريره أنه لا يريد التعليم العالي لأهالي مصر، فقط يريد أفندية للإدارة ودعم الطبقات العليا التي أصبحت في كثير من أعمالها غربية تماماً.

لعل كل ما حصل في الماضي يفسره ما يحصل في هذا الوقت، بل كان تمهيداً لما يسمى «العربيزي»، فيا عجباً كيف تشهد الدنيا بتفوق لغتنا على جميع اللغات، ويأتي من يعيبها ويتخلّى عنها من أجل لغة أجنبية تشبه في صوتها صوت آلات المصانع إذا تحرّكت، فلا رونق لها ولا جمال ولا تاريخ يُذكر!

للمقال تتمة..

Email