فجوة الثقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

علاقة المصريين بالحكومة والسلطة والإدارة والدولة، رغم التمايز بين الدولة وبين المفردات التي سبقتها، علاقة مركبة وممتدة وعميقة، بعمق وامتداد وتركيب الدولة والسلطة في مصر، ورغم هذا التعقيد والتركيب فإنه من السهل أن يلحظ المراقب أن العلاقة بين الطرفين تنطوي على تناقضات وتباينات.

فالمصريون يقدرون الدولة منذ القدم –فهم أصحاب أعرق دولة في التاريخ- ويكنون لها مشاعر الولاء والانتماء، ولكنهم مع ذلك فهم يهابون الدولة ويخشون سلطانها وقد تغير هذا الأمر نسبيا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011.

والأهم من ذلك فإنهم في العديد من الأحيان وبصدد العديد من القرارات، يتشككون في دوافع صدورها ويفتقدون الثقة في أهدافها النهائية؛ وإذا كان التقدير للدولة يصدر عن أنهم يعتبرون الدولة مصدر الأمن والأمان والحماية والتحديث والحداثة والعدل والصعود الاجتماعي، فإن الخوف منها وفقدان الثقة في بعض قراراتها ينجم أولا عن أن الحكام كانوا فيما مضى غرباء عن المصريين أو غزاة، حتى لو تمصروا فيما بعد، وعندما تمصر الحكم بعد 1952 استمر ذلك التراث وإن لأسباب مختلفة.

وثانيا لأن المواطن ضعيف في مواجهة الدولة، فهي تملك الأدوات والأجهزة والإدارة البيروقراطية التي لا قبل للمواطن بمواجهتها، فضلا عن ضعف تنظيم المواطنين وانخراطهم في أطر مجتمع مدني قوي ونشيط بمقدوره أن يلعب دور الوسيط بين المواطن والدولة.

ولا شك أن مصادر فجوة الثقة بين المواطنين والحكومة ناجمة عن ترسبات وتراكمات تاريخية في الوعي الفرد والجمعي للمصريين، منها ضعف المشاركة أو حداثتها، وغياب نمط للاتصال والإعلام يمد المواطنين بالمعلومات الضرورية واللازمة، لتفهم أي موقف وفي التوقيت الملائم لذلك، وليس في التوقيت الذي تراه الحكومة.

وفي نفس الوقت فإن الحكومة لم تستوعب بعد مفهوم المواطنة وما يعنيه وما يترتب عليه من حقوق ومن واجبات، وأولها ضرورة حصول الأداء الحكومي على التراضي العام وثقة المواطنين، ولن يتأتى ذلك ما لم يعلم المواطنون أن القرارات التي تتخذها الحكومة تصب لصالحهم ومصلحتهم ويلمسون في الواقع النتائج المترتبة على هذه القرارات.

والوعى الجماعي للمصريين يختزن ذكريات سابقة تشير إلى أن فجوة الثقة بين الطرفين لها ما يسوغها، فقد وضع المصريون ثقتهم في دولة جمال عبد الناصر وقدرتها على مواجهة إسرائيل عشية النكسة، بل وحتى خلال الأيام الأولى للعدوان، وصَدَّر الإعلام في هذه الفترة للمواطنين صورة غير حقيقية للأوضاع.

وتكشف للمصريين هول الفاجعة في خطاب التنحي، وفي النصف الأول من التسعينيات فوجئ المصريون بكشف إسرائيل والإسرائيليين عبر اعترافات بعض من شارك منهم في الحرب، مصير أسراهم على أيدى القوات الإسرائيلية الذين أعدموا وهم عزل من السلاح وبعد استسلامهم.

ولم تكشف الإدارة المصرية عن ملابسات ذلك، وكأن الأمر لا يعني المواطنين، ولاذت بالصمت إلى أن بادر بعض الإسرائيليين الذين شاركوا في مذبحة الأسرى وبعد الكشف عن الوثائق الخاصة بها بالإعلان عن ذلك.

صحيح أن دولة ثورة الثلاثين من يونيو تواجه ميراث عدة عقود من ترحيل الملفات والمشكلات، وتأجيل الاقتراب منها، بيد أن ذلك بطبيعة الحال يتطلب مقاربة جديدة لهذه الملفات تأخذ في اعتبارها المعطيات والمتغيرات والمستجدات في المشهد السياسي الحالي.

استمرار فجوة الثقة بين الحكومة وبين قطاع كبير ومؤثر من المواطنين ليس بالضرورة قدراً محتوماً لا يمكن الخلاص منه أو تجاوزه، بل هو معطى تاريخي وسياسي واجتماعي تشكل نتيجة فقدان المشاركة وتغييب المواطنين ودورهم في الشأن العام وحجب الحق في المعلومات وغياب فاعلية أجهزة الرقابة والمساءلة فضلا عن غياب الشفافية.

ومن ثم فإن استعادة الثقة وبناء جسورها تقتضي تفعيل نمط من الاتصال السياسي والإعلامي الرسمي وتوفير المعلومات في التوقيت المناسب إزاء القضايا التي تهم الرأي العام وكفالة حرية التعبير والنقاش والحوار السياسي ودعم المعارضة البناءة، هذا المناخ هو الذي يتكفل بخلق نهج جديد وبناء.

 

 

Email