«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ..»

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كانت قوات القشتاليين تحمل الموت قبل التهديد لإشبيلية، وقام البعض ممن خارت عزيمته وطُبِع على الجبن والذِلّة بمناشدة أمير إشبيلية المعتمد بن عباد لكي يُهادن ألفونسو، ويوافق على تسليمه أمر البلاد..

قال المعتمد كلمته الشهيرة لتُعبِّر عن رأي كل عربي حُرٍ في كل زمن مضى وكل زمنٍ آتٍ: «لأنْ أرعى الجمال في صحراء العرب خيرٌ مِن أن أرعى الخنازير في أرض الصليبيين»!

لن يقف معك إلا أخوك، ولن يحمي ظهرك إلا من تجري في شرايينه ذات الدماء التي تجري فيك، ومن ظنّ بأنّ الغريب خيرٌ من القريب فلا يعدو أن يكون قد فقد كل ذرّات المنطق، لذا ما زلت غير مُصدّق وأنا أقرأ لشخصية سياسية توسّمنا فيها الخير ولا زلنا كالشيخ تميم بن حمد، الذي كان حاضراً قمم رياض الحزم الثلاث مع الرئيس الأميركي.

وما تمخّضت عنه من تنديد بالدور الإيراني التخريبي في المنطقة، واتفاق على اجتثاث إرهابها وتدخلاتها في الشأن الداخلي لدول الجوار، ليخرج بتصريحه الصادم الذي قال فيه: «إنّ إيران قوة كبرى تضمن استقرار المنطقة، وتمثل ثقلاً إقليمياً إسلامياً لا يمكن تجاهله وليس من الحكمة التصعيد معها»!

هل يعقل هذا الكلام؟ من يُصَعّد ضد من؟ نحن أم إيران؟ إيران التي افتخرت باحتلال أربع عواصم عربية وهربت كميات هائلة من الأسلحة للمخربين في البحرين، تم تهريبها بواسطة الحرس الثوري الإيراني، وكانت ولا تزال تدس أنفها في الشأن الداخلي السعودي في ما يخص التعامل مع مؤججي الفتنة في القطيف.

وتدعم الحوثيين جهاراً نهاراً في اليمن، فوق احتلالها للجزر الإماراتية ولكامل الأحواز العربية وبلوشستان، هل نحن من يُصعّد معها؟ وهل يعقل أن يُقال بعد ذلك أنها «تضمن استقرار المنطقة» ربما كان من الأصح استبدال استقرار باحتلال وترويع المنطقة!

إنّ إيران لا تمثّل عُمقاً استراتيجياً لقطر لتُنافِح عنها، فعمقها الفعلي مع شقيقاتها الخليجيات التي تشترك معهم في كافة الروابط: العرق والدم والدين والمصير، أمّا إيران فلا ترى في العرب إلا همجاً ورعاعاً ولا تأتي تصريحات ساستها ومفكريها إلا بنبرة استعلائية تحمل الاحتقار لنا ولا تحمل جُعبتهم إلا مخططات تصدير الثورة واحتلال كامل الخليج وشبه جزيرة العرب، هذا واضح للجميع إلا لأشقائنا في قطر والسبب لا يحتاج حيرة: الفكر الإخواني الوصولي!

الإخوان الذين توغّلوا بشكل غير معقول في مراكز اتخاذ القرار القطرية، يأتون من عقيدة مشابهة لعقيدة ساسة طهران، فالاثنان يشتركان في عقيدة الولي الفقيه وإنْ تغيّر مسماه لدى الإخوان ليُصبح مُرشِد المقطّم، والاثنان أيضاً يعتقدان أن التغيير يأتي بالتلّون وجذب الاتباع باستغلال كلمات دينية براقة تحيّناً للفرصة لفتح حمامات الدم على مصراعيها.

كما فعلا في العراق وسوريا واليمن، الحميمية بين الطرفين منذ قدوم الخميني ووفد الإخوان لمباركة ثورته الشيطانية هي ما جعلت القرار القطري مُختطَفاً فعلاً، ويسير في منحنى مناقض لشقيقاتها الخليجيات، ورغم انكشاف مخطط تنظيم الإخوان العالمي وإدراجهم في لائحة المنظمات الإرهابية إلا أنّ هناك إصراراً غريباً غير مبرر لدى الأشقاء لاحتضانهم ومحاولة تلميعهم إعلامياً رغم افتضاح أمرهم..

هنا يستوقفني تصريح لوزير الخارجية القطري وهو ينكر وجود أي علاقة بين دولته وجماعة الإخوان المسلمين، هل يريدنا أن نُصدّق أن المنظّر الأكبر للجماعة يوسف القرضاوي الذي أُكرِم بالجنسية القطرية لا يعدو أن يكون «سانتا كلوز» أو «بابا ياسين» مثلاً؟

إن شقيقتنا قطر وللأسف سخّرت إمكانياتها المالية والدبلوماسية وجنّدت آلتها الإعلامية ممثلة بقناة الجزيرة لخدمة مشروع «مرشد المقطّم»، ووقفت معهم ولا زالت في عبثهم في مصر وتونس وليبيا، بل وصل الأمر للضغط على شقيقاتها من خلال محاولات استدرار التعاطف مع المخربّين الطائفيين في شرق السعودية والبحرين والكويت.

وانكشاف الدور «المحزن» و«الصادم» لها في قضية التنظيم السري بالإمارات الذي صُعقنا ونحن نسمع تسجيلاً لأحد قادة التنظيم وهو يقول بأن الأيام القادمة سيكون فيها داخل الإمارات «إراقة للدماء وإزهاق للأرواح»، حقاً أجد كل الكلمات خجلةً من مجرد التعليق على هذا الكلام ومن يقف خلفه ومن يدعمه إعلامياً في الخفاء!

لقد صبرت السعودية والإمارات كثيراً على ذلك الطيش السياسي من شقيقتهما الصغرى، وحاولتا كثيراً رأب تلك الصدوع في العلاقات بينهم بسبب تلك التصرفات المغلوطة، ولا أدلّ على ذلك من كثرة ترداد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، على الدوحة لإعادة قطر لعائلتها الكبرى.

لكن المحاولات من طرف واحد لا تكفي إنْ لم يتجاوب الآخر بصورة فعّالة ودائمة وليس وقتية، المشكلة الفعلية مع شقيقتنا قطر هو أنّ المراجعات التي تحدث بعد كل «تأزيم» تكون لتغيير التكتيكات وليس الرؤية لذلك لا تتمخّض الأيام القادمة إلا عن مزيد من الغرق في الرمال المتحركة وخسارة مساحات جديدة من الثقة في أوساط العائلة الخليجية الكبيرة التي كان آخرها هذا الفوران الشعبي الهائل تجاه التصريحات الصادمة رغم نفيها لاحقاً ولكن ما سبقها من مواقف لم يكن بعيداً عن ذات السياق.

بعيداً عن تشنّج المواطن الخليجي المصدوم مما قرأ وسمع، وبعيداً عن تشنج الشقيق القطري المدافع عن بلده، الموقف ليس موقف «عزاوي»، والوضع يجب أن يخرج من قضية «المؤامرة» الساذجة لتغطية كل خطأ بتهييج الداخل للدفاع عن عدو «وهمي»، نحن نحب قطر ونحب أهلها ولنا بها أهل ولهم فينا أهل.

لكن هناك خطأ لا يزال يحدث ولا بد من الاعتراف به والاعتذار عنه والعودة للعائلة الكبيرة، فالمرحلة خطرة والوضع يستوجب التكاتف ولا مكان لمغامرات جديدة، وعندما يشتكي منك الجميع لا بد أن تراجع نفسك لا أن تتهم الجميع باستهدافك، ولنتذكّر قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ»، لا زلنا نتعشّم فيكم الخير فلا تخذلونا.

 

Email