هنا كاسبة الطولات!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يكون للفرح طعمٌ آخر في عالم مليء بالأحزان والمنغصات، ويكون للفخر بالمنجزات ألقٌ مختلف في منطقة تتعثر بها الأقدام وتـــكثر بها السقطات والخيبات..

و يكون للوحدة مذاقٌ لا يوصف في أوساطٍ ممزقة وراياتٍ متقلبة الأهواء، ولئن مرّ الثاني من ديسمبر سريعاً بحُلّته واحتفاليته الزاهية إلا أنّ كل من يعيش على هذه التراب الطاهرة يعلم أننا نعيش ذات الفرحة كل يوم ونتشارك الفخر كل لحظة وننظر للمستقبل بقلوبٍ مطمئنة وخُطى واثقة تتناغم به الألوان والأعراق والأديان في سلام وتعايش وتكامل نَغْبِطُ أنفسنا عليه.

44 عاماً من الوحدة ودولة الإمارات تغرّد وحيدةً في وسطها الإقليمي، ولست هنا في معرض ذكر الإنجازات فهي أعرَفُ من أنْ تُعَرَّفْ ومن أراد فعليه أن يختار من مؤشرات التنمية العالمية المختلفة ما شاء وينظر أين هي الإمارات ثم سيكون مثاباً إنْ أتْبَعَ ذلك بقول «ما شاء الله»، أمّا إن كان من الباحثين عن المثالب.

فإن حسرته ستزداد وخيبته ستطولُ مُدّتها طويلاً بإذن الله، فنحن لم نخرج صدفة ولم نكُ ظِلاً لأحد ولسنا فقاعة ينتظرها الفاشلون لتتلاشى، بل نحن حاضرٌ لامع وتاريخ يُرغِم أنوف من يحاول تزوير الحقائق وهو لا يعي من التاريخ إلا اسمه!.

بلادنا لم توجد في الثاني من ديسمبر عام 1971، فتلك عقلياتُ بعض الجماجم التي لا تملؤها إلا السطحية والقلوب التي لا تعرف غير السواد لوناً، نعم ذلك يومٌ من أيام المجد الخالدة لإعلان قيام وطن متّحد يوحّد القلوب قبل توحيد التضاريس والجغرافيا ويضمّ الأماني والأحلام قبل ضم الرايات تحت رايةٍ واحدة..

لكن ذاك لا يعني أن ما قبل ذلك التاريخ لا يعدو أن يكون صفحة خالية إلا في العقول الخالية فقط، ولا نلومهم، فالجهل والحماقة تبدأ بصاحبها والحقد على نجاحــــات الإمارات تجعلهم يسقطون في مزالق مخجلة.

هذه الأرض الخالدة تغنى بها الرحالة الإغريقي «ماغاسثينس» قبل قرنين من الميلاد وحكى عنها الكتّاب الرومان القدماء «بليني» و«سترابو» وأطنب عنها أعظمهم «هيرودوتس» وذائع الصيت «بطليموس»، هنا كانت حضارة «ماجان» ..

والتي قامت على أراضي إمارة أبوظبي من العين حتى أم النار وشقيقتها زمنياً «ميلوخا» في منطقة مليحة بالشارقة عندما كانت سفنها تمخر عباب الخليج العربي محملة بالنحاس والرخام الأسود والمغر الأحمر والأخشاب والمطيبات إلى بلاد الرافدين قبل أربعة آلاف وخمسمئة سنة وبلغت من التألق مرتبةً جعلت الملك الأكادي الشهير سرجون الأول يغزوها مراراً لضمها لمملكته العظيمة..

وقد حَدَّد سرجون بُعدها عن مصب الفرات بـ(120) بيرو أي ما يعادل 800 ميل وهي المسافة من البصرة إلى أبوظبي حتى لا يتفلسف أحدٌ من أشباه المثقفين بادّعاء خلاف ذلك، ماجان التي تغنى بها شاعر مدينة أور الآكادية في عصورٍ سحيقة بقوله: «إنّ سفن (دلمون) جلبت إلى (أور نانشه) عطوراً، عسى أن تجلب إليك العقيق الثمين، وعسى أن تجلب إليك بلاد (ماجان) النحاس الجبار، أوثقوا سُفن دلمون بالأرض، واحملوا سُفن ماجان إلى السماء»!.

نحن لم نوجد قبل 44 ســــنة يا أشباه المثقفين، فجزيرتي دلما ومروّح بأبوظبي كانتا تعجّان بالتجمعات البشرية في أواخر الألفية السادسة قبل الميلاد كما أثبتت ذلك التنقيبات، وجبل بحايص في الشارقة تعود آثاره لحضارةٍ قامت خلال العصر الحجري الحديث أي قبل 4000 سنة قبل الميلاد، وحضارة هيلي وجــــبل حفيت بالعين تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد بينما ازدهرت تجارة الحلي في منطقة القطارة في الألفية الثانية..

وفي مسارٍ مهم للتوضيح تظهر تقنيات الزراعة إلى قيام سكان الإمارات منذ قديم الأزمنة بشق الأفلاج و بناء دهاليز سفلية للمياه تعود للعصر الحديدي ـ أي قبل ثلاثة آلاف سنة - في مويلح وسهل المدام وهيلي وبدع بنت سعّود ووادي الجبيب في بيان جليّ على تهافت ادعاء نقل تلــــك التــقنية قبل وقتٍ قريبٍ من آخرين.

تذكر كتب التاريخ أيضاً أنّ أوائل العرب الذين سكنوا الأطراف الغربية من الإمـــارات هم طسم وجديس من العرب البائدة قبل أن تتوافد على أراضيها هجرات القبائل العدنانية على مرور السنين فاستقرت بها، ودلالة على بركة أهل هذه الديار تُشير الروايات التاريخية الموثقة أن أهلها بقوا ثابتين على دينهم خلال الردةّ وأقرّ خالد بن الوليد جيفر وعبد أبناء الجلندي حُكّام منطقة توام (العين حالياً) على فعلهم، وبقيت هذه الأرض بين خير رب السماء ونقاء وأنفة أهلها.

إنّ المطقطقين على وتر الماضي لنبذ الإمارات يعلمون يقيناً أنهم لا يستطيعون انتقاص انجازات حاضرها، ولكن المضحك المبكي أنهم لا يملكون شيئاً يفاخرون به عندما يذكرون حضارات بلادهم التي ابتُليت بهم إلا فعل أناسٍ ماتوا منذ آلاف السنين، فهم لم يبنوا تلك المباني ..

ولم يشيدوا تلك المآثر ولم يشاركوا ولا بـ(خوصة) أو حتى (كحة) في تأسيس تلك الامبراطوريات والممالك، فهم أفشل من أن يصنعوا فارقاً سوى تلك الجعجعة الجوفاء وما أقرب وصفهم لقوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات».

نحن بلاد تصنع مجد حاضرها بسواعد ابنائها وفكرهم، يفتخر بنا اليوم كما افتخر بنا الأمس البعيد، منذ وطئ البشر هذه الأرض وهي حُرّةٌ ترسم مسارها بنفسها دون وصايةٍ من أحد، نحنُ كُلٌ مستقلٌ بنفسه منذُ كنّا، لم يُظلّنا أحدٌ بِمُلاءته ولم نَسِر في رِكابه ولَمْ تَرِفَّ فوق هاماتنا إلا راياتنا وحدها، إن قُلنا (نعم) فعن قناعة..

وإن قلنا (لا) فعن مبدأ، أسميناه (عيد الاتحاد) لا عيد الاستقلال فلم يَجُس في الديار مُستعمِر ولم تنم عين أجدادنا على ضيمٍ أو غُبْن ولم تهنأ لمن أرادها بسوءٍ نَفْس، هي إمارات التاريخ الموغل في القدم وهي إمارات الحاضر المبهر وبعون الله هي إمارات رهان المستقبل و«كاسبة الطولات»!.

 

Email