السينما والوجهة السياحية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس هنالك أكثر من الأمكنة قدرة على توزيع المعنى والدلالة، والتأثير المستدام على البشر من دون أن ينقص من تلك الأمكنة شبراً واحداً فقط، فهي كالنبع الغزير لا ينضب فيه المعنى، ما دام أن الإنسان يتفاعل مع محيطه القريب والبعيد.

قد تنقص مساحتك فيها إن اكتظت بالمنافسين الزوار، أو تكون بعيدة أو صعبة الوصول، لكنها تفيض بالمشهد في مخيلتك، وتتفاعل معها فتكون التجربة الإنسانية فيها متخيلة إلى أن تتحول إلى واقع معرفي أو سياحي فريد يوماً ما، فإن ترى المكان من بعيد وتهواه أو ترغب بزيارته، يعني أن المكان ذاته قد مد إليك أولى عتباته لاستقبالك، وأعلن لافتة التحية والترحيب.

ويبدو هذا الأمر عملياً وحيوياً إذ يتم توظيف العديد من الأوعية الترويجية والتحفيزية لاستقطاب الزوار، وإذا كانت الصورة تساوي ألف كلمة، فإن المشهد المتحرك يساوي الآلاف من الكلمات، وإن يُعطي المكان معنى درامياً وسياحياً من خلال إنتاج فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني أو حتى لعبة إلكترونية، فهذا يعني فتح نافذة كبيرة على المعنى ينظر من خلالها المُشاهد، ويتفاعل مع المكان، الذي قد يكون اللاعب الرئيس في أحداث العمل الدرامي والسينمائي. وبقدر نجاح المخرج في توظيف المكان، وخلقه معاني جديدة فبالضرورة سيرفع أعلى درجات التحفيز لدى المُتلقي لزيارة المكان والتفاعل معه واقعياً، ويختبر تجربته الثقافية والسياحية والتراثية والبيئية والاجتماعية وغيرها.

وتألقت معالم العاصمة أبوظبي، في مشاهد الجزء السابع من فيلم الحماس والسرعة والتشويق «فاست آند فيوريوس»، للمخرج جيمس، الذي تم تصويره في مواقع مختلفة من الإمارة، وقد أضافت المقومات المعمارية والبيئية والطبيعية لأبوظبي قيمة إضافية جعلت الفيلم أكثر إثارة وتشويقاً. وكذلك اتخاذ «برج خليفة» مكاناً لتصوير فيلم «المهمة المستحيلة» لمخرجه براد بيرد ليكون مسرحاً درامياً وترويجياً، يتم تسليط الضوء على دبي التي تحتضن أعلى برج في العالم.

لقد استطاعت السينما الأميركية والمسلسلات الدرامية التركية واللاتينية تحديداً توظيف إنتاجها الإبداعي الدرامي للترويج للوجهات السياحية في العديد من أنحاء العالم بحسب مكان أحداث الفيلم أو المسلسل، وقد تكون هنالك وجهة رئيسة وأخرى ثانية في ذات العمل الواحد، حيث يتم تسليط الضوء على جميع المنتجات السياحية وتنوعها وتميّزها عن وجهة دون أخرى.

فنُسْحَر ونُحَلّق من مقاعدنا في قاعة السينما أو نطير من أرائكنا في غرفنا الضيقة أمام التلفاز إلى أماكن فسيحة، تفيض بالمعنى والدلالة والجمال أو حتى القبح والقسوة، لكنها حتماً ليست حيادية أو ثانوية، بل هي تثري المعنى لهذه الأمكنة، فيزداد عدد زوارها من السياح والفضوليين، وبذلك فإن بعضها تتغير الهوية الإعلامية السياحية الخاصة بها، مثل ما حدث في قرية جازكار بجوار مدينة مالاقا الإسبانية، حيث تحولت إلى قرية فيلم السنافر، وهي الشخصيات البلجيكية الكرتونية الشهيرة.

مَن منا لا يعرف صحراء دوز التونسية، حيث سقطت طائرة «المريض الإنجليزي»، ومنطقة والاس مونيومنت في أسكتلندا، حيث تم تصوير فيلم «بريفهارت-القلب الشجاع» من بطولة ميل جيبسون، إذ في السنة اللاحقة لعرض الفيلم تضاعف عدد زوار المكان 300%، وفيلم «المهمة المستحيلة»، الذي تم تصويره في ناشيونال بارك بمدينة سيدني الأسترالية، حيث تضاعف عدد الزوار إلى 200%، وفيلم «أربعة أعراس وجنازة واحدة»، الذي تم تصويره في فندق كراون أميرشام- إنجلترا ،حيث تم حجز الفندق بعد عرض الفيلم لثلاث سنوات لاحقة، كما شهدت حديقة ليم في إنجلترا إقبالاً كبيراً وصل إلى150% بعض عرض فيلم «برايد اند بروجيدايس».

ومن لا يذكر ذلك المنزل الجميل المطل على مياه المتوسط الذي تم تصوير 154 حلقة من المسلسل المُدبلج الشهير «نور»، وهو المنزل التي غدا معلماً سياحياً ووجهة لحفلات الزواج، ومزاراً للعشاق والمحرومين وحتى المعتذرين عن خياناتهم لأزواجهم وأصدقائهم.

فهل الأمكنة بشكلها التقليدي بلدان ومدن وأرياف وقرى ومناطق ومقاه ومطاعم ومنازل وأحياء وأزقة، نستقبلها بمثل ما يستقبلها الآخرون، على الرغم من أن بعضها مر عليه مئات السنين دون تغيير أو تعديل، أو أن بعضها تم إحياؤه من جديد فتحول إلى أسطورة يتمنى القاصي والداني أن يكون جزءاً منها بأن تطأ قدمه هذا المكان أو ذاك.

إنه سحر السينما العجيب، فالساعة الكبيرة الشاهقة في الميدان الرئيس لمدينة ما تعني الكثير للآخرين بحسب صنف وطبيعة الموعد، الذي نسجه العشاق أو الغرماء والمتخاصمون والمتصالحون تحتها. مَن منا لا يعرف كم هو الجرح الغائر الذي تسببه في نفوسنا ذلك الموت الرهيب لانتحار «آنا كارنينا» رائعة الكاتب الروسي ليو توليستوي، إذ وضعت كارنينا نفسها تحت عجلات القطار ظانّة أن حبيبها خذلها وتخلى عنها إلى الأبد، وهو الذي جاء متأخراً دون إرادته ليراها وقد انتحرت تحت عجلات ذات القطار، الذي أوصله إلى المحطة ذاتها، فأصبحت كل محطة قطار في روسيا تبعث في ذاكرتنا، كوننا مشاهدين أو زائرين، المعنى الأليم والقاسي بين عاشقين، وقد تكون القيمة والمعنى للمحطة ذاتها على عكس ذلك في روايات أخرى، وأعمال إبداعية رومانسية أخرى.

إنه سحر الفن السابع وقدرته على إحياء الأمكنة والمعنى في نفوسنا، لنكون أحياء بالمعنى والدلالة بغض النظر عن طبيعته ونوعه وسلبياته وإيجابياته، المهم أن نرى التجربة ونسعى إليها، لأن الأمكنة تحتمل جميع المعاني ومناقضاتها، فهي الحياة كل الحياة حلوة ومرة.

Email