دبابير

ت + ت - الحجم الطبيعي

على شرفة بيت المطلّة على الفراغ ومداها الأقحط والأجرد إلا ما خلا من أعشاب جفت وتساقطت أوراقها، ولم يبق في سيقانها بلل إلا ما خبأته جذورها كي تبقيها على قيد الحياة أملاً أن لا يتأخر الشتاء هذا العام، كان توقيتي الصباحي ينضبط على طلّة الطيّر عند الشروق وزقزقته التي لا تدوم إلا دقائق معدودة، ينقر فيها بعض الحبوب التي أضعها، ويغتسل ويشرب من قطير المكيف الهوائي المثبت أعلى الشرفة، ثم سرعان ما يغادر وحيداً كما جاء ليعود في الصباح التالي في الموعد ذاته.

على مدى شهرين لم يبد الطير إلا العطش والجوع والوجل من كل شيء حتى من نسمة الهواء، أو حتى من دبيب النمل الذي سلك طريقه عبر شقوق الشرفة مسترزقاً بما خلفه من حبوب وفُتات. لم تطأ قدماي هذه الشرفة إلا مرة واحدة، فقد كانت جزءاً من هذه الصحراء اللافحة وحاضنة لذرات الغبار والحشرات الميتة الجافة التي لا فيها غث ولا سمين.

مرة واحدة فقط حاولت تنظيف الشرفة، ولكن في اليوم التالي هبت الرياح كعادتها محملة بما لا يطاق من الأتربة، فقلت لنفسي: لماذا أصلح ما لا يُستصلح. ووقفت خلف زجاج الشرفة، أنظر إلى التحول المفاجئ والسريع، وكأنها زحف صحراوي لا يهدأ إذ اكتست الشرفة وجدرانها باللون الترابي الصحراوي.

كان العصفور والنمل ونزيف قطرات الماء سر الحياة في شرفتي، استمتع بها كل صباح، وفي يوم ما جديد جاء العصفور ولكن ليس وحيداً كعادته، فمعه اليوم رفيقته، فضاعفت حجم الحبوب ونوعيتها، خفف العصفور من غنائه منذ أن وجد رفيقته، فلماذا يغني ما دام أنه وجد من بُحَّ صوته لأجله.

بعد أيام، بدأ الطير ورفيقته ببناء عش القش الخفيف في زاوية الشرفة. سعدت أن الحياة تتكون في شرفتي وأنني أرقبها يوماً بعد يوم، وأن زائريَّ المؤقتيْن سيكونان ضيفيّ الدائمين. أحكمت ستائري وأغلقتها حتى لا أزعجهما، فللطيور خصوصيتها، وأبقيت على جدول الماء المقطّر من المكيّف على مدار اليوم.

تكاثر العصفوران، وتفاجأت أنها أنقصت من أكل الحبوب، وجاءت بكائنات صغيرة من الزواحف والديدان، ما كنت أتوقع أن هذه الأرض القاحلة تختزن هذه الكائنات الغريبة، كبرت الفراخ فطارت. وغابت أياماً قليلة، وعادت لتأكل من الحبوب ذاتها، وتشرب من الماء المقطر ذاته. وكثرت الزقزقات وتنوّعت النّغمات، وكثرت العصافير وأنواعها، وكثرت الأعشاش وتكاثرت. وزادت مسالك النمل وبيوتاتها. وطفح الغبار على أرضية الشرفة سوى جدول صغير شقته قطرات الماء المتتابعة، فبدا وكأنه جدول الحياة وسط الجفاء والجفاف.

وفي يوم شتاء جميل، بينما كنت أطل على نافذة الحياة من شرفتي، جاءت طلائع النحل لتبني بيتها على الحائط الجانبي للشرفة، فازدادت الحياة حياة وألقاً، وبدت بنثر بعض حبيبات السكر ليخفف على النحل جوعه ويطمئنه أن ثمة حلاوة ما في هذه الشرفة. ونبتت الحبوب في الغبار المتكدس على جانبي جدول الماء على أرض الشرفة ، واخضرت الشرفة أغصاناً وأوراقاً وزهوراً، وجذبت الفراشات، وطيوراً بأنواع جديدة.

وفي أحد الايام، حيث الكائنات من سكان الشرفة يتهيؤون لحياة جديدة، اكفهرت السماء وتلبدت سُحُبُهَا وحبست أنفاسها واحتقنت فلا هي ماطرة ولا منسحبة. وفجأة بينما الحياة هادئة هاجمت مجموعة من الدبابير بيت النحل، وبدأت معركة ضروس دافع فيها النحل بشراسة واستبسال عن بيته وعن مليكته، واستمات في ذلك، فعجزت الدبابير، وقتلت من النحل الكثير. وهاجمت أعشاش العصافير ونهشت صغارها. وبدأت هذه الدبابير ببناء مستعمراتها من غبار الشرفة بعد أن تلوكه وتطحنه وتبصقه وتلصقه على الحائط.

لم يعد في الربيع حياة، فالعصافير هاجرت، والنحل هرب تاركاً قطير العسل، والفراشات قَصُرَت دورة حياتها عطشاً واحتراقاً بلهيب الشمس، بقي النمل في شقوقه مرتعباً خائفاً. أما أنا المطل على شرفتي، أغلقت مكيف الهواء وأوقفت الماء المقطر المتدفق، وجففت الأعشاب، إلا أن الدبابير لم ترحل، وما زالت تلوك وتطحن وتبصق وتلصق وتبيض. سألت أحد أصدقائي: وما الحل إذاً. قال لي واثقاً: احرق شرفتك وافتح أبوابها، وازرعها وابدأ الحياة من جديد. فالربيع العربي يلزمه أولاً حرق »دبابير داعش« أينما كانت.

Email