من الإصلاح الديني إلى التنوير العقلي

ت + ت - الحجم الطبيعي

فشل مشروع الإصلاح الديني فى تجديد الفكر الإسلامي (التقليدي) بفعل الضغط المتصاعد من قبل الإسلام السياسي (الإخواني)، قبل أن يؤدي الإسلام الجهادي إلى انفجار التقليد الإسلامى، المفترض إصلاحه، من داخله، نتيجة لتأخرنا فى النهوض بالمهمة، مثل خُرَّاج لم يعالج فى الوقت المناسب.

فانفجر فى جسد صاحبه، وصار مستعصياً على الجراحة التقليدية البسيطة، فارضاً على الطبيب استبدالها بجراحة أصعب، وهو ما يفرضه علينا الإرهاب الآن، حيث الانتقال الضروري من مهمة الإصلاح الديني إلى مشروع التنوير العقلي، الأكثر فعالية في مواجهة عالم جديد مختلف.

لقد واجه الإصلاح الديني في طبعته الأوروبية، عالم القرن السادس عشر، حيث المعرفة العلمية لم تتطور جذرياً، والتكنولوجياً لا تكاد تتجاوز الجهد العضلي للحيوان إلا قليلًا.

كما واجه الإصلاح الديني في طبعته العربية عالماً مشابهاً، بعد قرون ثلاثة، تعكس فارق التطور الحضاري بين شاطئي المتوسط ومن ثم كانت دعوة الإمام منطقية فى زمانه، على عكس اليوم، حيث نواجه عالماً مغايراً تطورت فيه المعارف العلمية، والتكنولوجيات الراقية، وتنامى انتشارها إلى مستوى مذهل، صارت معه سلاحاً تدميرياً فى أيدي المتطرفين، الذين يجيدون توظيف منتجات الحداثة فى النيل من المجتمعات التي تحتضنها، ومن القيم التي تدعو إليها، كالعقلانية، والعلمانية، والتاريخية، والنسبية، والنزعة الفردية.

فالأصولي الراهن ليس تقليدياً منطوياً، يخشى الحداثة، ويتوجه صوب الماضي، بل متطرفا ثورياً، خرج على التقليد الإسلامي في متنه الرئيسي الذي لم يدع أبداً محورية الدولة فى الدين، ولم يقل قط بالخروج على الحاكم سواء الشرعي بحسب البيعة، أو حتى المتسلط بقوة الأمر الواقع، مهما كان مستبداً أو فاسداً.

لأن في الخروج إراقة للدماء وتوليداً لمفاسد، يبقى درؤها مقدماً على جلب المصالح، ولم يشذ عن ذلك في التقليد السني الواسع سوى الخوارج الذين استمروا هامشا احتجاجياً على متن تقليد سائد، ولا في التقليد الشيعي سوى أنصار ولاية الفقيه في إيران.

المشكلة الكبرى أن مجتمعاتنا التي لم تعرف تنويراً ذاتياً، أو تقارب متون الحداثة جوهرياً، بدت تواقة دوما إلى الغرف من هوامشها التكنولوجية.

والنتيجة النهائية أن تلك المجتمعات التي امتلكت من التكنولوجيا أرقاها، ظلت زراعية غالباً، ورعوية أحياناً، مغتربة عن مثل الحداثة الاجتماعية وفي قلبها الحرية الفردية. مثلما ظلت دولنا، حاضنة الاستبداد والطائفية والقبلية، ممتنعة على مثل الحداثة السياسية وفي قلبها الديمقراطية.

وهكذا وضعنا البنزين بجوار النار: عقل مغلق يواجه عالماً مفتوحاً، وعي تقليدي يمتلك منتج ما بعد حداثي، مزاج متطرف يحوز أسلحة فتاكة، وهنا يمكن تخيل نتاجات تلك الخلطة العجيبة، بل مطالعتها كل يوم بيننا، وحولنا، في عمليات القتل وحفلات التدمير.

هذا الواقع، حيث الأصولي رجلٌ ذو مشروع مستقبلي للهيمنة وإن بسلطة المفاهيم التراثية المحرفة، إنما يفرض رداً مختلفاً على التحدي الذي يمثله.

كان الإصلاح الديني قادراً على مواجهة الأصولي التقليدي، المنطوي على ذاته خوفاً من العالم الحديث، بإعادة دراسة هادئة للنص التراثي، ومخزون الفتاوى التاريخي، ولكنه لم يعد كذلك في مواجهة أصولي عنيف لا يعبأ أصلاً بالنص التراثي، إلا على سبيل التحريف البين.

ولا يكترث بمخزون الفتاوى الذى صار قادراً على إصدار ما يعطلها ويزايد عليها بعد أن أحكم قبضته على الشعور الديني العام في البيئات الموالية له، وذلك على حساب مؤسسات الفتوى الرسمية.

ومن ثم فإن ردّ الفعل القادر على موازنة الفعل الأساسي، إنما يتمثل في العلمانية السياسية لا الوجودية، وفي التنوير الروحي لا المادي، كونهما طريقين ضروريين للعيش المتمدين والنهوض الحضاري، مستقلين عن الدين، وليسا معاديين له.

الفارق العملي بين مشروع الإصلاح ومشروع التنوير، بعيداً عن أى جدل نظري، أن الإصلاح مهمة الأزهر وحده أو بالأساس، والتي يعجز عن القيام بها، كونه ينهض بنيوياً على عقل تقليدي، يرعى المذهب الأشعري الرافض لمفهوم السببية، أصل كل عقلانية حديثة، ولمفهوم القدرية المعتزلي، المؤسس للحرية الإنسانية والمسؤولية الأخلاقية في آن.

وكونه، أيضا، ينتج فقهاء لاتسعفهم عقلانيتهم التقليدية، ولو في حدها الأقصى، إلا بتفسير النص الديني لغوياً، تفتيحاً لنوافذ الفتوى غالباً، ولكن من دون قدرة على تقديم نقد تاريخي له، يفتح الطريق واسعاً بينه وبين حركة الواقع الدافقة، فهو بالأحرى تجديد فقهي لا فكري.

أما التنوير العقلي فلا نقصد به انتظاراً لتراكم تاريخي فكري، عقلاني وتحرري على المنوال الغربي، يستغرق عقوداً وربما قروناً، بل مشروعاً متكاملً للدولة برمتها، دور الأزهر فيه هو إصلاح نفسه، بإعادة صياغة نظام التعليم داخله، وهي مهمة خطيرة، سنتوقف عندها لاحقاً.

 

Email