العولمة.. والعلوم الإنسانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد كان محقاً فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، عندما قال في كلمته في الافتتاح الرسمي لمنتدى الإعلام العربي في دورته الثانية عشرة، التي نظمها نادي دبي للصحافة، تحت رعاية وبحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.. »لقد بدا للناس أن بطل الحلبة هو الحرف المكتوب والملفوظ، وأنه يمكن أن يفجّر - في أحدث تجلياته الإلكترونية - ثورة اجتماعية واقتصادية وسياسية، بل إنّ العولمة التي تفرض نفسها على البشرية كلها، ليست حقيقتها إلا مظهر أو أثر من آثار ثورة المعرفة والاتصال.

وتنشغل العقول الكبيرة في العالم بهذه الثقافة الجديدة، ثقافة الأرقام والحروف والكشف عن أسرارها وتوظيفاتها، لا على النحو القديم الغامض الذي اتخذ من طلاسم وتمائم، ولا على النحو التأمليّ الفلسفي، الذي أنطق فيلسوف الإغريق فيثاغورس، ليهتف من أعماقه بأن العالم عدد ونغم.. بل على نحو جديد حوّل حياتنا المعاصرة إلى أرقام جامدة، تبتعد عن دفء الإنسانية وجمالها، بقدر ما تقترب من جفاف الرموز وهندسة الأشكال«..

لقد صدقت أيها الشيخ الجليل، لأننا نعيش في ظل تفجر »ثورة معلوماتية« تعبر الفضاء المفتوح دون حسيب أو رقيب، لتؤسس لنظام عالمي جديد، يفتقر إلى الأصول العلمية الأخلاقية والمنطقية، الأمر الذي يحتم علينا في جميع دولنا العربية والإسلامية، تنشئة أجيالنا وفق أبجديات المنطق وأسس المنهج العلمي، ليكونوا خط الدفاع الأول في مواجهة الغزو الثقافي الغربي، وتداعيات عصر العولمة، بما فيه من أفكار تتعارض مع قيمنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا العربية الإسلامية.

ومما لا شك فيه، أن هناك صلة قوية بين جميع العلوم الإنسانية، من منطلق أنها تتجه جميعها إلى دراسة موضوع واحد، هو الإنسان، ولكن كل علم منها يستقل بدراسة جانب من جوانبه.. ويعد الكِندي أول فلاسفة العرب الذين عبروا عن العلاقة بين الدين والفلسفة في كتابه »رسالة إلى المعتصم بالله«، حينما أوضح أن الفلسفة هي علم الأشياء بحقائقها بقدر الطاقة الإنسانية، وأن غرض الفيلسوف من علمه وعمله، هو إصابة الحق.. في حين أوضح الإمام الغزالي العلاقة بين الدين والفلسفة بقوله: »اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لن يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء.. ولن يثبت بناء ما لم يكن أساس، ومعنى ذلك أن العقل بدون شريعة لا قيمة له، وإن ثبات الشريعة يستلزم العقل، فكلاهما ضروري للآخر«.

ومن الفلاسفة العرب في مختلف العلوم، ابن خلدون في علم الاجتماع، وجابر بن حيان في الفيزياء والمنطق، والخوارزمي في الجبر، وابن سينا في الطب، والفارابي، والماوردي، وابن رشد، وأبو بكر الرازي في الفلسفة والبحث وأصول الدين.. وغيرهم الكثير الكثير ممن أسسوا لهذه العلوم، التي استفاد الغرب منها، ومن التقدم العلمي الذي حققه العرب والمسلمون، ولا أحد يجهل أن ابن خلدون هو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع وعلم التاريخ.. كذلك فإن قواعد المنهج التجريبي لدى »فرانسيس بيكون«، وجدت كاملة في الأبحاث العلمية عند مفكري الإسلام، كما أن مكتشف »الدورة الدموية« هو ابن النفيس العربي، وليس »هارفي« كما يدعي الغرب.

من هنا، يحاول علماء المسلمين وأساتذة الجامعات في العالم العربي والإسلامي جاهدين، إبراز المعطيات والمعتقدات الإسلامية والموروث الفكري الإسلامي في المناهج الدراسية، وذلك لمواجهة الغزو الفكري الغربي، وخاصة التحديات التي تفرضها العولمة بتداعياتها الخطيرة على الثقافة الإسلامية في مجالات العلوم، خاصة الإنسانية والاجتماعية.

كما يركز علماء الإسلام على دراسة وتنشيط حركة التحقيق والنشر للتراث الإسلامي، وذلك بإخراج ما تحويه المكتبات العربية المليئة بكنوز ونوادر المخطوطات العلمية القيمة، في مختلف فروع المعرفة الإنسانية. لذا، لا بد من التذكير بالدور المهم لعلم الفلسفة والمنطق في ظهور علم الرياضيات، ووضع أسس وقواعد المنهج العلمي.

وكما هو متعارف علمياً، فإن المنطق هو العلم الذي يضع المبادئ الضرورية التي تضمن صحة التفكير عند الإنسان، وهو الذي يخاطب العقل الإنساني، ومن هنا، تحضرني مقولة الفيلسوف الشهير ديكارت: »أنا أفكر، إذن أنا موجود«. ومن أشهر العبارات التي قالها أبو حيان التوحيدي، نقلاً عن أستاذه أبي سليمان السجستاني: »النحو منطق عربي، والمنطق نحو عقلي، ولولا أن الكمال غير مستطاع، لكان يجب أن يكون المنطق نحوياً والنحو منطقياً«. ويقول »كلاوس يورغن غروين« أستاذ الفلسفة (الألماني) في إحدى جامعات فرانكفورت: »إن الفلسفة من الممكن أن تساعد الناس على التكيف مع مجتمع التعددية«. فالأشخاص الذين يفكرون بعمق ويسألون أسئلة ثاقبة، لا تخدعهم الإجابات البسيطة.

وقد شعر الخبراء الاقتصاديون بالفضول تجاه تجارب غروين العملية، حيث قال كونت أوغستينوس هينكل، وهو خبير مالي في مدينة دوسلدورف: »من الممكن أن تكون الفلسفة هي أقرب شيء لتقييم الإجماع، إذ إنها شيء يحتاجه هذا النظام رغم تحرره«.

ويرى غروين أن الفلسفة ينبغي أن تقوم بدور العلم الذي يؤهل للحياة المهنية، ويؤكد أن »زيادة الخطاب الفلسفي في الحياة اليومية، لن تكون بالأمر الضار«، بل على عكس ذلك.. نعم.. ينبغي أن تقوم الفلسفة بدور العلم الذي يؤهل للحياة المهنية، ونحن بحاجة ماسة في استراتيجياتنا التعليمية في الدول العربية والإسلامية، إلى حجر أساس في تنشئة أبنائنا الطلبة على اختلاف مراحلهم الدراسية، على أبجديات المنطق، كي يتأثر تفكيرهم وسلوكهم بقواعد وأسس المنهج العلمي، لأنه من اللوازم المهمة التي يجب أن تكون خط دفاع، لدى جيل اليوم وأجيال الغد..

Email