من أجل وحدة العراق وانسجام العراقيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أكثر من نصف قرن، قال الرئيس جمال عبد الناصر في إحدى خطبه وهو يهاجم الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، الذي كان ينتقد الوحدة العربية الاندماجية بين مصر وسوريا عام 1959 مقترحا مبدأ الاتحاد الكونفدرالي بديلا، فأجابه عبد الناصر متهكما: "قبل أن تشتم الوحدة العربية يا قاسم، عليك بوحدة العراق.."! ومضى زمن وتم الانفصال وفشل مشروع الوحدة، وبدأ العراق ينتقل من مأزق سياسي لآخر منذ زمن بعيد، ليس بسبب انعدام أي وجود للعراق تاريخيا بزعم العراقيين الجدد، بل بسبب الفرقة وضعف انسجام العراقيين في ما بينهم لأسباب تاريخية معقدة جدا، ولولا نسيج العراق جغرافيا وحضاريا وثقافيا، لتفكك العراق منذ زمن طويل، خصوصا وأنه تعّرض على امتداد مئة سنة مضت، لتحديات غاية في القسوة والتهتك والتوحش، وإن كانت وحدته الجغرافية قد بقيت سدا منيعا أمام نزعات العراقيين وأهوائهم الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية والحزبية اليوم!

لقد عاش العراق بين قوة حكوماته أو ضعفها منذ أكثر من ألف سنة، وهو من قسمين جغرافيين اثنين: بلاد الجزيرة الفراتية شمالا، وبلاد السواد جنوبا. وكانت واسطة عقدهما بغداد، وقد تلاقح السكان فيه بين التلاقي والافتراق، وهم يتوارثون نزعاتهم وتقاليدهم بشراكة وانسجام وتعايش قلّ نظيره..

ولقد مرت على العراق مراحل تاريخية صعبة وقسمته الاحتلالات والحصارات، ولكن بدا واضحا أن مصالح مجتمعه الداخلية أكبر بكثير من افتراقات الناس وانعدام الانسجام في ما بينهم، ذلك أن التناقضات في ما بينهم قد سببتها ثنائيات لا يمكن إنكارها أبدا، سواء بين التحضر والبداوة، أو بين التمدن والتريف، أو بين الشيعة والسنة، أو بين الأكثرية والأقليات، أو بين العرب والأكراد والتركمان.. أو بين الوطنية والقومية، أو بين العروبة والشعوبية.. الخ.

اليوم يعاني العراق من وباء الانقسام الذي يبدو سياسيا على الواجهة، ولكنه اجتماعي في الصميم، وخصوصا بعد مضي أكثر من ستين سنة مريرة مرّت بالعراق وهو يعاني من الأحاديات العسكرية والشوفينية الحاكمة، ومن التمردات الداخلية، ومن الحروب الإقليمية، ومن الصراعات الحزبية، ومن المطامع الخارجية والاحتلالات الأجنبية، ومن الحصارات المؤذية، ومن الدكتاتورية المقيتة، وأخيرا من الطائفية العمياء.. ناهيكم عن أوبئة التخلف وأمراض التريف والتعصبات والجهويات وخروقات الآخرين..

ولقد ثبت للمؤرخ أن العراق بقدر ما ينجذب الناس إليه من كل حدب وصوب، إلا أنه من أكثر البيئات الطاردة لأهلها نحو الشتات! ولعل مشكلة أي عراقي اليوم هي أنه يريد احتكار الوطن لنفسه دون الآخر، أو أنه يتخذه وطنا تبعا للمصلحة المادية التي تربطه به دون أي شيء آخر، وقد كثر الفساد والمفسدون إلى درجة مخيفة هذه الأيام!

وإذا كان كل عراقي سابقا ينفر من فكرة تقسيم بلده وتقطيعه، فهو اليوم يلجأ إلى أن يجعل وطنه عشيرة أو مدينة أو إقليما أو منطقة أو دولة خاصة به، كي يحقق حلم معتقداته البائسة التي تعشش في عقله ومشاعره، بل وبدا مصطلح "المكونات" بديلا عن "المواطنة".. لقد تعجبت وأنا أستمع إلى كلمة ألقاها الرئيس السابق صدام حسين في مجلس قيادة الثورة عام 1982، وهو يقترح منح الأكراد العراقيين حقهم بالانفصال وتأسيس دولتهم، ويستطرد قائلا: "لولا العرب أمة مفككة لطرحت القضية الكردية على بساط البحث وإعطاء الكرد حق تقرير المصير.."!

وإذا كانت المشكلة الكردية عائقا أمام مستقبل العراق، فإن للشيعة العراقيين مشروعهم في تأسيس كيان شيعي في العراق، وبقدر ما كان هذا المشروع محط اشمئزاز السنّة العراقيين قبل عشر سنوات، فإن السنّة اليوم يطرحون مشروعا لتأسيس كيان سنّي في العراق، أي بمعنى تقسيم العراق طائفيا ومن دون التفكير بما سيؤول حال العراق بعد تقسيمه لا سمح الله..

وإذا كانت مكونات العراقيين الثلاثة الرئيسية كما أسموها - قد منح لها في الدستور (الجديد) الحق في تأسيس "أقاليم"، فإن الأقاليم ستغدو كيانات لا محالة، وقد لا يلام البعض عندما ينادي بالانفصال جراء حالات الصراع والمعاناة والإقصاء والتهميش وشتم الرموز والشعور بالمظلومية..

ربما يرى البعض أن ذلك هو الحل الأمثل لمشاكل العراقيين، ولكن دعوني أتساءل فقط: هل كان الدستور يحمل مشروعا وطنيا لكل العراقيين؟ هل كانت هناك على امتداد تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث أية دول منفصلة عن بعضها الآخر في العراق؟ كيف سيحدد العراقيون دولهم في المستقبل؟ أي كيف سيرسمون حدودهم السياسية مع بعضهم الآخر؟ ما مصير بغداد العاصمة التاريخية؟ ومن سيفوز بها؟ كيف ستعيش هذه الدويلات الثلاث التي تحدها دول إقليمية كبيرة مثل إيران وتركيا والسعودية؟ هل باستطاعة كردستان أن تعيش بمعزل عن بغداد والموصل والبصرة؟ ما مصير كركوك التي تجمع موزاييك اجتماعيا متنوعا؟ وإذا كانت كردستان العراق دولة قومية، فهل سيسمي بقية العراقيين دولتيهما الطائفيتين العراق السني والعراق الشيعي؟ وهل هذا هو الحل الأمثل لمحو النزعة الطائفية أم أنه مشروع مأساوي لصراع طويل المدى بين دولتين طائفيتين منفصلتين في عراق جغرافي واحد؟ أليس من الجنون تكريس نزعة انقسامية وسياسية تاريخية في تكوين صراع اجتماعي قادم؟ هل يأتي حل المشكلة الطائفية عبر هذا الطريق أم أنه يكمن أساسا في احترام كل مذهب رموز المذهب الآخر؟

إنني أعتقد أن حلّ المشكلة الطائفية في العراق يكمن في التوقف تماما عن سبّ الرموز التاريخية، وإحلال التفكير المدني وفصل المذاهب عن السلطات.. ومنح القوميات حقوقها العادلة. إن حل المشكلة العراقية يكمن في معالجة أسس الخلاف المذهبي، وإخراج السياسة العراقية من هذا المأزق التاريخي الغبي، كي نعيد الانسجام بين العراقيين، ولنبقي العراق موحدا مهما بلغ حجم التحديات.

Email