دروسٌ من التجربة العراقية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عشر سنوات مرّت على أول احتلالٍ أميركي لبلدٍ عربي. قبل ذلك التاريخ، كان التدخل العسكري الأميركي في البلاد العربية يأخذ أشكالاً مختلفة، لكنّه لم يصل أبداً إلى حدّ الاحتلال الكامل، كالذي حصل ربيع عام 2003 في العراق. أميركا قبل ذلك التاريخ، هي غيرها بعده. وكذلك العراق، وعموم المنطقة العربية. فالعالم الذي وقف مع أميركا، متضامناً ومتعاطفاً معها بعد الذي حدث فيها يوم 11 سبتمبر 2001، وقف معظمه ضدّها حينما قرّرت غزو العراق، دون أيّة مبرّرات مشروعة أو مرجعية قانونية دولية.

وقد دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً مقابل تلك الخطيئة التاريخية التي ارتكبتها إدارة "المحافظين الجدد" بإشراف بوش- تشيني. أمّا على الجانب العراقي، فإنّ الثمن الباهظ ما زال يُدفَع رغم مرور عقدٍ من الزمن على الغزو الأميركي/البريطاني، ورغم انسحاب القوات الأجنبية من العراق.

إنّ الاحتلال الأميركي هو الذي دمّر مقوّمات الدولة العراقية، وأوجد فيها الفراغ الرسمي الأمني والسياسي، ممّا شجّع القوى المحلّية على التنافس والانقسام، والقوى الإقليمية على التدخّل لأسباب مختلفة في شؤون العراق. أليست السياسة الأميركية هي المسؤولة عن خلع كل أبوابه الأمنية أمام جماعات التطرف المعروفة باسم "القاعدة"، وعن التدخل الإقليمي المجاور الذي يشتكي منه الآن البعض؟

طبعاً لا يعني ذلك تبريراً للسياسات الرسمية العربية عموماً، أو للنظام العراقي السابق تحديداً، ولممارسته الإجرامية بحقّ شعبه وجيرانه العرب والمسلمين، فخلاصة أوضاع العراق الآن أنّ النظام السابق كان مسؤولاً عن إحضار الاحتلال الأجنبي. فمأساة العراقيين هي حصيلة مزيج مركّب من خطايا الماضي والحاضر معاً. لكن السؤال المهم هو، ليس عن الماضي والحاضر فقط، بل عن كيفيّة رؤية مستقبل العراق أيضاً، وهو أمرٌ مهمّ للعراقيين وللعرب وللعالم كلّه.

فإنهاء الاحتلال الأميركي للعراق لم يكن موضع نقاش أو خلاف بين العراقيين، بل إنَّ الوفاق الوطني العراقي على مستقبل العراق هو الذي كان غائباً في مرحلة ما بعد انسحاب القوات الأميركية، ولوضع ركائز الدولة العراقيّة الجديدة.

إنَّ بعض العراقيين رفضوا الاحتلال الأميركي وقاوموه، لكن بهدف العودة للماضي الذي كان سائداً قبل الاحتلال! بينما وجدنا قطاعاً آخر من العراقيين قد قبل بنتائج الاحتلال وإفرازاته السياسية والدستورية، نتيجة معاناته الطويلة في الماضي من ممارسات النظام السابق. وهنا تكمن أهميّة اتفاق العراقيين الآن على رفض سلبيات كل الماضي (البعثي والاحتلالي بكلّ مراحله)، وعلى وضع الأسس السليمة لبناء عراق جديد ديمقراطي موحّد، واضح الهويّة والانتماء والدور في محيطه العربي والإسلامي.

فلا احتلال العراق يشفع لماضيه "الصدامي"، ولا ماضي الظلم هو البديل لمرحلة الاحتلال، ولا هو المبرّر أيضاً للاستنجاد بأيّ أجنبي قريبٍ أو بعيد.

فأيُّ عراقٍ للمستقبل، هو السؤال الّذي لم يجد بعدُ إجابةً شافية عنه، يتّفق عليها الجسم السياسي العراقي المريض!

إنّ غياب الولاء الوطني الصّحيح في معظم البلاد العربيّة مردّه ضعف مفهوم الانتماء للوطن، وسيادة الانتماءات الفئويّة القائمة على الطّائفيّة والقبليّة والعشائريّة. أيضاً، إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو إثني، يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة، والحكمة أصلاً من وجودها على الأرض!

إنَّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً هو انشغال الكثير من شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية. فمن رحْم هذه الأزمات تتوالد مخاطر سياسية وأمنية عديدة، أبرزها الآن مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافةً إلى الصراعات السياسية والتنافس على السلطة.

فالخطر هو على المنطقة العربية كلّها، وليس حصراً على الأراضي التي تشتعل فيها الأزمات. وهذه الأزمات هي تعبيرٌ عن تفاعلات ووقائع قائمة تعيشها وتشهدها الأمَّة العربية كلَّها، وهي نتاجٌ طبيعي لتدخّل أجنبي يحدث دون إرادة عربية مشتركة في مواجهته، فيحصل الاستفراد الدولي والأجنبي بالأوطان العربية، في ظلِّ استمرار المشروع الإسرائيلي الهادف إلى تقسيم البلاد العربية، لتكون الدولة اليهودية الأقوى هي المهيمنة على "الدويلات" الدينية الأخرى المتصارعة.

إنّ العراق يعيش الآن جملة عناصر مركّبة لأزمةٍ واحدة أوجدها الاحتلال، وهي الواقع السياسي/الدستوري والانقسامي/الجغرافي الراهن، لكنّه (أي الاحتلال) لم يصنع كل العناصر المتصارعة، وإن سعى لتوظيفها لخدمة مصالحه.

إنّ العراق اليوم هو ساحة صراع بين أميركا وإيران، كما هو بين دول مجاورة أخرى، وبين أتباع نظامٍ قديم وعسكر نظامٍ جديد، وهو أيضاً ساحة لتنفيذ أعمال إجرامية إرهابية من قبل جماعات متطرفة، قدِمت من أكثر من مكان لتقاتل في العراق أيّاً كان من غير أتباعها. كما أنّ العراق كان مختبراً مهمّاً لمشروع التقسيم الطائفي والإثني الذي تعمل له إسرائيل منذ عقود، وقد حاولت تنفيذه أكثر من مرّة في لبنان، ولها (إسرائيل) الكثير من العملاء الذين يتحرّكون اليوم في العراق وفي عموم المنطقة.

إنَّ الصراع هو الآن على "هُويّة الصراع" في المنطقة العربية، فهو صراع مصالح دولية/إقليمية على النفوذ والمواقع والثروات، لكنْ يريد البعض تحويله إلى صراعات طائفية ومذهبية، وإلى حروب أهلية في أكثر من مكان. وصمّام الأمان لوحدة الأوطان والمجتمعات العربية يكون في التأكيد على الطبيعة السياسية للصراع، وفي ملء الفراغ الكامن عربياً من حيث انعدام المرجعية العربية الفاعلة والمشروع العربي الواحد لمستقبل الأمَّة وأوطانها.

كان ممكناً أن يحصل التغيير في العراق، وبالاتجاه الصحيح الذي يحفظ الشعب العراقي ويصون له وحدته وسيادته، قبل أن تفرض واشنطن هذا التغيير بقوة الاحتلال العسكري، وبالاتجاه الخاطئ المشرذم للعراق، المدمّر لإمكاناته، والمستبيح لسيادته.

إنّ الحرب الأميركية بُنيت على خطايا نظام سابق، لكنها أيضاً كانت حرب الخطايا الأميركية بحقّ أميركا والعراق والعرب والعالم.. ولا يمكن لما يُبنى على خطأ أن يؤدّي إلى نتائج صحيحة.

 

Email