بين الوحدة والانفصال

ت + ت - الحجم الطبيعي

وقف مد الربيع العربي عند تخوم لبنان والعراق، دون أن يقدر على اختراق حدودهما، فالدولتان اللتان تمثلان مجتمعاً متعدد الأعراق والأديان والمذاهب، عصيتان على أن تتشكل فيهما حركة جامعة تدعو إلى الإصلاح، ناهيك عن الثورة وتأسيس نظام جديد. لا يمكنني الاقتناع بأن ما يقوم به أهل الرمادي الكرام أو الموصل من مظاهرات واعتصامات، هي حركة جامعة لكل العراقيين، ستلقى تعاطفاً في أحياء العمارة وسوق الشيوخ والقرنة وطويريج..

وعلى نفس المستوى، لم تلق بالطبع مظاهرات ساحة التحرير المؤيدة للمالكي، أي آذان مصغية في بلد وعانة والفلوجة، ناهيك عن تكريت! والحركتان كلتاهما لا تعنيان البتة شيئاً للأكراد القابعين شمالاً في جبالهم الحصينة، والرابضين على ثروات نفطية هائلة. والمكونات الثلاثة هذه تنتمي إلى جمهورية العراق، وريثة حضارات بلاد الرافدين العظيمة.

ويبدو جلياً أن الأكراد منهمكون في وضع اللبنات الأولى لبناء دولتهم المستقلة، أو هم بالأحرى قد وضعوها منذ أيام «الحظر الجوي»، الذي فرضته دول التحالف بعد تحرير الكويت في عام 1991. يساعدهم في ذلك، ضعف الدولة المركزية في بغداد، والفرقة الآخذة في الاتساع بين العرب الشيعة والسنة، وقرب انهيار نظام بشار الأسد، ودخول حكومة أردوغان في مفاوضات جادة مع زعيم حزب العمال الكردستاني أوجلان، السجين لديها، لإعطاء حقوق أكبر للأكراد.

وفوق هذا وذاك، نضال الحركة القومية الكردية لبناء دولة مستقلة، وهو ما ينسجم مع مبدأ تقرير المصير للشعوب الذي نادي به الرئيس الأميركي ودرو ويلسون في أوائل القرن الماضي، وأقرته الأمم المتحدة. وربما أصبحت كردستان العراق نواة لدولة كردية تضم إلى جانب أهلها، أكراد تركيا وإيران وسوريا، وهو حلم يراود الخمسة والعشرين مليوناً من الأكراد الموزعين على هذه الدول.

والربيع العربي اصطدم في لبنان، بسور ربما هو أعلى وأسمك من سور الصين، على عظمته وجلالة قدره. وسور لبنان هو سور الطائفية المتوارث، وحوائطه أعلى من أن يتسلقها شباب هذا الفريق أو ذاك، وأغلظ من أن يجرفها تيار التغيير الذي ينشده هؤلاء.

وقد كتبت متفائلاً في بدء الثورات العربية، على صدر صفحات جريدتنا الغراء، حينما تشكلت حركة شبابية في لبنان تطالب بإلغاء الطائفية السياسية، وبناء دولة عصرية أساسها المواطنة، كتبت متنبئاً بنجاح هذه الحركة، رغم المعوقات التي تقف في طريقها.

وكم كنت مخطئاً حينئذٍ، إذ وضعت الأحداث المتلاحقة في تونس ثم مصر فاليمن وليبيا وغيرها، غشاوة على عيني من رؤية الواقع بصورة موضوعية، فما يتبين لي الآن هو أن تنبئي ذاك كان من باب تمني النفس، أكثر منه قراءة حصيفة لمجريات الأمور.

وكما في العراق، حيث التوزيع الجغرافي للطوائف والقوميات يساعد على التمترس الطائفي بين شيعة في الجنوب، وسنة في الوسط، وأكراد في الشمال، فإن لبنان أيضاً يعيش نفس الأوضاع، حيث يتوزع الشيعة أساساً في الجنوب، والسنة في الشمال، ويتقاسم الجبل الدروز والموارنة، واختل التوازن الطائفي للعاصمة بيروت التي كانت تسكنها العائلات السنية، بفعل نزوح أهل الجنوب الشيعة وتمركزهم في الضاحية الجنوبية، نتيجة للعدوان الإسرائيلي المتكرر على مناطقهم.

وما التوتر الحاصل في مدينة طرابلس بين العلويين والسنة، إلا تجل واضح للمشاعر المتضاربة التي تجيش في نفوس أبناء البلد الواحد حيال ما يجرى في المنطقة، عاكسة فشل «الدولة» في خلق مشاعر وطنية مشتركة تكون أساساً للعيش المشترك بوئام.

وانفصل جنوب السودان عن شماله، وربما ستنفصل دارفور أيضاً. فلا أحد من المراقبين كان يعتقد أن السودان من الممكن أن يستمر على وضعه السابق، إذ كان نصفه الجنوبي مسيحياً ينتمي عرقياً إلى إفريقيا، ونصفه الشمالي مسلماً ينتمي إلى القومية العربية. ومما زاد الطين بلة، أن حكومة البشير التي جاء بها الإخوان المسلمون بقيادة الترابي، قد رفعت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، ليس بالحكمة والموعظة الحسنة، بل بالقوة.

وكان ذلك إيذاناً بانفصال سكان الجنوب عن شماله، لأنه لم تعد ثمة أرضية مشتركة بين الطرفين. وفي هذه الأيام نرى «الحراك الجنوبي» عاود نشاطه بقوة في الشطر الجنوبي من اليمن، الذي اتحد في عام 1990، وشهد حرباً انفصالية ضروساً، قادها الشمال بعد ذلك بأقل من أربع سنوات. لست مع الانفصال، فالاتحاد والوحدة خير للشعوب، بشرط أن تكون اتحاداً حراً، وليس اتحاداً يفرض بالنار والحديد.. ولنا وقفة أخرى مع الموضوع.

 

Email