كيف تَسْلُق بيضة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كنت طالباً في الجامعة، قال لي أحد أساتذة تقنية المعلومات بأنه سيهاجر إلى الولايات المتحدة للتدريس في إحدى جامعاتها المتخصصة في التكنولوجيا، حيث أُعجبت الجامعة بأطروحته حول الذكاء الاصطناعي الذي ظل يعمل عليها لسنوات، فقدمت له عرضاً بمنحه مختبراً مزوداً بالأجهزة التي يحتاج إليها ليكمل بحثه، .

كما أنها خصصت له مجموعة من طلبة الدكتوراة ليساعدوه في ذلك المختبر، إلا أنه لم يتوقع أن يصل إلى النتيجة المرجوة في حياته لأنه تجاوز السبعين من عمره، عندها لم أتمالك نفسي من الدهشة، فقال مستدركاً:»تعلم الجامعة بأنني قد أموت قبل أن أنهي بحثي، ولذلك وضعت لي ثمانية طلاب حتى يُكملوا البحث في حال وفاتي»..

إن مراكز الأبحاث التي خرجت منها اختراعات البشرية الكبيرة لا تيأس من المحاولة، ولا تستعجل الباحثين للتوصل إلى نتيجة سريعة، ولذلك فإن للمعرفة في تلك المجتمعات قيمة عُليا، فلا يستنكف أحد عن قضاء حياته كلها بحثاً في موضوع ما، فنتائج الأبحاث لا يمكن أن تُقاس مثل نتائج البنوك، وما أجمل المجتمع الذي يصير البحث فيه عن المعلومة هدفا في حد ذاته.

إن شغف المجتمعات المتقدمة بالمعلومات واهتمام أفرادها بمعرفة الجديد في مختلف المجالات، هو ممارسة حضارية نفتقدها في معظم مجتمعاتنا العربية، أضف إلى ذلك افتقارنا إلى ثقافة احترام المعرفة وتقديرها وخصوصاً عندما تكون خارج دائرة اهتماماتنا، فلقد كنت في أحد معارض الكتب منذ مدة وتناولت كتاباً عن (التاريخ الكوني للشوكولاتة)، فمر بي أحدهم وقال

:»لا تضيع وقتك في قراءة علمٍ لا ينفع» فلم أرد عليه وتجاهلته متقدماً إلى البائع لشراء الكتاب. إنها كارثة ثقافية عندما نصنّف ما نجهل وما لا نحب تحت باب علم لا ينفع، .

والكارثة الأكبر هي عندما لا نقوم في حياتنا بشيء ينفع، لنغدو عندها عالة على الثقافة، حيث تصبح الصحف والمواقع الإخبارية هي مصادر معلوماتنا، ويكفي عندها أن نتحدث حول بضع قضايا سياسية في المجالس العامة لكي ينبهر بنا الحاضرون ويصفوننا بأننا (مثقفون).

إن احتقارنا للمعرفة، مهما صغرت، هو جاهلية حضارية، وجريمة تاريخية نرتكبها في حق أوطاننا والأجيال القادمة، ولذلك تنتشر في مجتمعاتنا ثقافة الإشاعة والنميمة، فعندما يغادر الفهم عقل الإنسان، تحل السطحية مكانه، ويتحول الناس إلى مرتزقة في العلم، لا يملكون إلا التصعلك في الأحاديث العامة والتسكّع في أعراض الناس والخوض في تفاصيل حياتهم.

الغريب أن كثيرا منا يقللون من شأن المعرفة بتصرفاتهم وبأقوالهم، ومن ثم لا ينفكون يدّعون العلم بها في شتى الميادين عندما يُسألون، ولا يفتأون يشاركون في كل حوار بتكرار ما يتذكرونه من نشرات الأخبار التي شاهدوها في الليلة الماضية، .

ولذلك، نجد ضحالة في النسق الفكري في مجتمعاتنا، فلا أحد مهتم بالقراءة حول موضوع ما قبل الخوض فيه، وقلما تجد من يؤمن بفكرة التخصص في مجال واحد، وهنا أتساءل: هل نحن قوم لا نستحي من الجهل؟ أم أننا نجهل أحياناً بأننا جاهلون؟

إن هذه (العقلية العامّة) كما أحب أن أسميها، تُفقد المجتمع قدرته على الابتكار، وتجعل من الصعب على المبدعين أن يُنتجوا ويستمروا في إبداعاتهم في مجتمع لا يستوعب أهمية المعلومة وبالتالي لا يقدر المبدعين، ولو علمنا أن نجاح أحدنا هو نجاح لنا جميعا، لوضعنا أيدينا سلماً حتى يطلع عليه، فلا قيمة للنجاح في مجتمع فاشل، وعندما نقتل الإبداع في المتميزين الذين يعيشون بيننا، فإننا نلغي كل فرصة لنا لنبدع أيضاً.

إن الإبداع يحتاج إلى مجتمع يُعلي من قدر المعرفة، ولا يتردد أفراده في مشاركة اهتماماتهم ومعلوماتهم وخبراتهم مع بعضهم البعض، وعندما يحدث ذلك، يصبح الابتكار ثقافة مجتمع، ويصير البحث عن المعلومة إحدى السمات الحضارية فيه.

ولهذا فإننا نسمع أسماء مخترعين ومبتكرين في الغرب أكثر من الشرق لأن النظام التعليمي والمنظومة المعرفية هناك قائمة على الإبداع والابتكار اللذين أسست لهما ثقافة الاطلاع والشغف لمعرفة الجديد. وأذكر أنني كلما مررتُ بحارس العمارة التي سكنت فيها بواشنطن وجدته يقرأ في مجلة ما، وعندما سألته عما يقرأ قال لي: «أي شيء أقرأه سيكون أفضل من النوم»..

عندما سئل ستيف جوبز عن الابتكار قال: «يأتي الابتكار من الناس الذين يلتقون في الأروقة ويتصلون ببعضهم عند العاشرة والنصف ليلاً عارضين أفكاراً جديدة أو مكتشفين خطأ في طريقة التفكير بمسألة معينة، إنها لقاءات يدعو أحدهم لعقدها لمعرفة رأي الآخرين في الاكتشاف الذي توصل إليه، أو في الفكرة التي تراوده». قبل أيام قرأت من أحد المغردين على تويتر بأن الغرب لا يحتقر أي معلومة حتى وإن كانت حول سلق البيض، .

وعندما بحثت في يوتيوب عن جملة «كيف تسلق بيضة» بالإنجليزية وجدت أكثر من 1400 فيديو، عدتُ وبحثت بالعربية فلم أجد شيئاً. لا أريد من العرب أن يتعلموا سلق البيض، ولكنني أتمنى ألا يُحقّروا مَن أخذ على عاتقه تعليم الناس شيئاً حتى وإن كان بسيطاً، فلقد اجتهد عندما تكاسل الآخرون.

Email